وكأن العالم لم تكفه الحرب الروسية الأوكرانية، الدائرة حتى كتابة تلك السطور، ليبدأ في خلق صراع جديد، في منطقة أخرى، تتصاعد أحداثه باضطراد، مُنذرة بحرب، أو حروب، جديدة في المستقبل القريب. وهي منطقة القطب الشمالي، التي صارت، فجأة، أحد المناطق الساخنة، القابلة للانفجار، وذلك بالتزامن مع ظهور ثروات هائلة بها، رغم كونها ثانِ أبرد منطقة بالكرة الأرضية، نظراً لاستقبالها لأقل كمية من أشعة الشمس، وبالتالي تكسوها الثلوج، بطبقة سميكة، على مدار العام.
والقطب الشمالي هو أعلى نقطة، على محور دوران كوكب الأرض، ويقع في المحيط المتجمد الشمالي، وطبقاً للقانون الدولي، فإن منطقة القطب الشمالي ملك للإنسانية جمعاء، ولا تتبع حدود أي دولة، ولا يمكن لأي دولة ادعاء السيادة عليه، أو على أجزاء منه، حتى من دول الجوار الخمس، وهي روسيا وكندا والنرويج والدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 2000 أصدرت دائرة المسح الجيولوجي الأمريكية، تقريراً يفيد بأن القطب الشمالي يحتوي على 25% من الاحتياطات العالمية، غير المكتشفة، من النفط والغاز الطبيعي، إلى جانب احتياطي كبير من الماس والذهب والبلاتين والقصدير والمنجنيز والرصاص. ولتبسيط الصورة باستخدام لغة الأرقام، فتفيد التقارير بوجود 90 مليار برميل من النفط، بالقطب الشمالي، وهو ما يكفي لتلبية الطلب الأمريكي على النفط، لمدة 12 عاماً، فضلاً عن توقع وجود ما يزيد عن خمسين تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي.
ومن هنا بدأ الاهتمام بالقطب الشمالي، أو بصريح العبارة “الصراع على منطقة القطب الشمالي”، حيث بدأت دول الجوار المطالبة بضم جزء من أراضي القطب الشمالي إلى حدودها، للاستفادة من هذه الثروات، خاصة بعدما نجحت روسيا، كأول دولة، في استخراج النفط والغاز من داخل حدودها بالمنطقة القطبية، التي يمثل فيها شاطئها الساحلي نسبة 53% من ساحل المحيط المتجمد الشمالي. واستغلت الولايات المتحدة الأمريكية وقوع ولاية ألاسكا، التابعة لها، على المحيط المتجمد الشمالي، بالقرب من الحدود الروسية، فقامت بنشر 27 ألف جندي بها، وأقامت مناورات عسكرية في الشمال.
إلا أن الأطماع لم تقتصر على دول الجوار، بل امتدت لأبعد منها، فتجد الصين قد استثمرت في القطب الشمالي نحو 90 مليار دولار ما بين عام 2014 و2017، وهو ما دفع وزير الخارجية الأمريكي، الأسبق، مايك بومبيو، للتصريح بوضوح أطماع الصين، في القطب الشمالي، ومعلناً رفضه لأن يكون لبكين أي حقوق في المنطقة المتجمدة، لترد الصين باحترامها لسيادة الدول، داخل حدودها الرسمية، المعترف بها، لكن منطقة القطب الشمالي ليست ضمن الحدود الإقليمية لهذه البلدان المشاطئة للمحيط، مضيفة أن تعداد الصين، يمثل خُمس سكان العالم، وهو ما ترى معه أحقيتها في خمس الثروات الطبيعية، بمنطقة القطب الشمالي، خارج حدود هذه الدول المشاطئة.
ومع التغيرات المناخية التي يشهدها العالم منذ سنوات، بدأ ذوبان الجليد، في القطب الشمالي، ليظهر معه احتمالية لوجود طريق ملاحي، جديد، عبر الشمال، بين روسيا والصين، يسمح بنقل البضائع بين أوروبا وآسيا بشكل أسرع. واعتماداً على تشوق وتطلع دول شمال أوروبا لاستخدامه، وتعزيزاً لقدراتها في التحكم في دول أوروبا، انطلقت روسيا لاستثمار مبالغ طائلة، في مشروع الطريق الملاحي الجديد، بتنفيذ أنظمة جديدة للملاحة، ومحطات الغاز الطبيعي، والخدمات، فضلاً عن استخدام كاسحات الجليد النووية، من طراز “أركتيكا”، القادرة على تحطيم الجليد، خلال تحركها للأمام وللخلف، بهدف جعل هذا الطريق الملاحي قابلاً للاستخدام معظم شهور العام، بدلاً عما يقل عن ثلاثة شهور في العام بأكمله.
ولاختبار ذلك الطريق الملاحي الجديد، استخدمته شركة جازبروم الروسية للنفط، في تصدير الشحنة النفطية الثانية إلى الأسواق الأوروبية، وبنجاح المهمة أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في بداية عام 2021، عن تشكيل قوة عسكرية، في منطقة القطب الشمالي، بهدف الدفاع عن أمن روسيا، ومصالحها، وذلك رداً على إعلان وزير الخارجية الأمريكي، الحالي، أنتوني بلينكن الذي طلب تجنب عسكرة القطب الشمالي. فطبقاً للقانون الدولي، يتم تنظيم العلاقة بين الدول الخمس المشاطئة للقطب الشمالي، روسيا وكندا والدنمارك والنرويج وأمريكا، بإعمال قانون البحار، الصادر من الأمم المتحدة، عام 1982، عن اتفاقية حقوق الملكية في الجرف القاري، إلا أن هناك دول متداخلة في المنطقة، مثل فنلندا والسويد وأيسلندا، ولكل منهم حدود داخل المياه، تمتد إلى 200 ميل بحري، بينما يعد الباقي مياهاً دولية.
وللحد من أطراف النزاع، المرتقب، وتلبية لطموحات وأطماع الدول الخمس بالتوسع في منطقة القطب الشمالي، تسعى تلك الدول لإعادة تفسير الاتفاقية الدولية لقانون البحار عام 82، بحيث تسمح بزيادة مساحة الجرف القاري من 200 ميل، من الساحل، إلى 350 ميل. وهكذا سيتحول الصراع، حول ثروات القطب الشمالي، إلى نزاعات سياسية وعسكرية، ولا سيما أن دولاً عظمى، مثل روسيا وأمريكا، تتضارب مصالحهما حول حرمان الصين من المشاركة في الثروات الاقتصادية للقطب الشمالي، بينما قد يتفقان حول حرمان دولاً أخرى من ذات الثروات.
وهكذا ظهرت بؤرة جديدة للصراع في العالم قد تتطور الأحداث فيها إلى تدخل عسكري نظراً للإمكانات الاقتصادية الهائلة التي يتمتع بها القطب الشمالي، والإمكانات السياسية والعسكرية الهائلة لأطراف النزاع المحتمل.