كان الفريق الجمسي عائداً من المباحثات مع الجانب الإسرائيلي، في منطقة الكيلو 101، للفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية، بعد صدور قرار الأمم المتحدة بوقف القتال في حرب 73. وفور دخوله للمشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية، حينها، في غرفة عمليات الحرب، وقفنا جميعاً لنعرف بعض مما دار في تلك المباحثات، فوجه الفريق الجمسي حديثه للمشير أحمد إسماعيل قائلاً، “يا فندم ده موضوع قفل باب المندب وجعهم قوي … طوال المناقشات كل شوية افتحوا باب المندب … افتحوا باب المندب، حتى وأنا متوجه لسيارتي للمغادرة، نادى عليّ رئيس الوفد الإسرائيلي، الجنرال أهارون ياريف، مدير المخابرات الإسرائيلية، قائلاً لا تنسى فتح باب المندب”. بعدها انفرد الفريق الجمسي بالمشير إسماعيل، لاستكمال حوارهما.
كان إغلاق باب المندب، أمام الملاحة الإسرائيلية، حصاراً بحرياً، نفذته القوات البحرية المصرية، على إسرائيل، وبدأته في الساعة الثانية والربع من ظهر يوم السادس من أكتوبر، مع بدء هجوم قواتنا لاقتحام خط بارليف. تعود أهمية الخطة، لأن إسرائيل كانت تستورد من إيران نحو 18 مليون طن من النفط، يمر عبر باب المندب إلى ميناء إيلات لاستخدام جزء منه، وإعادة تصدير الباقي إلى أوروبا، وخلال ذلك الحصار الذي فرضته قواتنا على العدو الإسرائيلي، لم تدخل ناقلة نفط واحدة إلى الموانئ الإسرائيلية، حتى الأول من نوفمبر 1973، عندما سمح الرئيس السادات بدخول أول ناقلة، مقابل إيصال الإمدادات إلى قوات الجيش الثالث شرق القناة.
اعتُبرت هذه العملية، التي أُطلق عليها “الحصار البحري عن بُعد”، واحدة من كبرى المفاجآت التي مُنيت بها إسرائيل، في حرب أكتوبر، ولم تحسب لها أي حساب، أو تتوقعها، من قريب أو من بعيد، إذ انحسر تفكيرها في أن أي محاولة مصرية لإعاقة الملاحة الإسرائيلية، في البحر الأحمر، ستكون من خلال مضايق تيران وصنافير. تم تنفيذ الخطة باستخدام القوات البحرية المصرية، في منطقة باب المندب، بعيداً عن “اليد الطولى” للجيش الإسرائيلي، ذلك اللقب الأسطوري الذي كان يطلقه على قواته الجوية، فوقفت إسرائيل، طوال أيام القتال، عاجزة، تماماً، عن التصرف، أمام هذا القرار المصري، وظل ميناء إيلات مهجوراً، حتى يوم الأول من نوفمبر 73.
وبهذا سطرت مصر فصلاً جديداً في مراجع العلوم العسكرية العالمية، بعنوان “الحصار البحري عن بُعد” ووضعت قوانيناً مستحدثة للقتال البحرية، في العقيدة الغربية، بعد حرب أكتوبر، لازالت تدرس في المؤسسات العسكرية باسم مصر. تعود فكرة إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، للواء أشرف رفعت، رئيس شعبة عمليات القوات البحرية، الذي قال عنها، بأن أساسها كان تنفيذ عمل خارج مدى القوات الجوية الإسرائيلية، وهو ما جعله يستبعد حصار إيلات من تيران وصنافير، مع ضرورة تنفيذ العملية دون خرق للقانون الدولي، لذا لم يتعطل مرور باقي السفن، مثل الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، وغيرهم.
وبالتعاون مع مختلف أجهزة الدولة، نجحت القوات المصرية في تكوين شركة مدنية، في ميناء الحديدة، في اليمن، قبل بداية الحرب بعدة أشهر، وتم من خلالها تخزين الأصناف، التي قد تحتاجها القوات البحرية المصرية، أثناء فترة الحصار، وخاصة الأصناف اللوجستية، وهو ما كان أحد نقاط التحقيق، في “لجنة أجرانات”، التي شكلتها إسرائيل، بعد فشلها في حرب 73، للبحث، والتحقيق، في مواطن القصور التي أدت لخسارة الحرب، حتى أن اللجنة عُرفت باسم “لجنة التقصير”، وقد أشارت، في تقريرها، لتقصير المخابرات الإسرائيلية في دورها، بعدم اكتشاف تكدسات المصريين، في ميناء الحديدة.
كانت القوات البحرية المصرية قد دفعت بعناصر الحصار البحري على فترات متباعدة، وفقاً لما صرح به اللواء بحري أركان حرب مصطفى كمال منصور، قائد عملية حصار باب المندب، بأنه لم يعلم بالموعد المحدد للعملية إلا قبلها بشهرين، فتحرك بالقطع البحرية، في أغسطس 73، في اتجاه ميناء عدن، باعتباره محطة، تتوقف فيها قطع الأسطول، في وقفة قصيرة، في طريقها، المعتاد، إلى ميناء كراتشي، بباكستان، لدخول الحوض الجاف، وإجراء عمرة للسفن. وبالفعل، لما وصلت قطع الأسطول البحري لميناء عدن، أعلنت بأن وجهتها ميناء كراتشي، فخُدعت إسرائيل، ولم تشعر باستكمال هذا التجميع البحري المصري، إلا يوم 6 أكتوبر، والقوة البحرية المصرية، من المدمرات والغواصات ولنشات الصواريخ، قد تمركزت في مواقعها على مدخل باب المندب. وهو ما دفع “لجنة أجرانات” لتأكيد تقصير المخابرات الإسرائيلية، بعد فشلها في متابعة، وتحليل، تحركات قطع الأسطول المصري، في البحر الأحمر، وإخفاقها في معرفة العملية المصرية، والكشف عنها مسبقاً، خاصة وأن القوتان العسكريتان في حالة حرب.
وهكذا نجحت القوات البحرية المصرية في هذه العملية، في مفاجأة إسرائيل، وتوجيه ضربة موجعة لها، سواء عسكرياً أو اقتصادياً، بقطع إمدادات النفط عنها، مع التنسيق لضمان فشل القوات الجوية الإسرائيلية في تأمين مطالب قواتهم، حتى أن بعض وسائل إعلامهم وصفت النعيق، يومها، فوق ميناء إيلات، بأنه مؤشراً لفشل المخابرات الإسرائيلية. وهكذا أثبت المقاتل المصري، مرة أخرى، تميز مستواه، على شتى الأصعدة، سواء في التخطيط أو التنفيذ، ليعطي المثل والقدوة للعالم كله، في تنفيذ مفاهيم القتال البحري، اعتماداً على خبرة المصريين والدروس المستوحاة من قدراتهم في حرب أكتوبر 73.