الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحبا الفضيلة الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، والشيخ: عبدالله بن زايد في موضوع خطير، والناس في أشد الحاجة إلى التنبيه عليه، والتحذير منه، وهو موضوع الربا، ولقد أجادا وأفادا وأوضحا ما ينبغي إيضاحه في هذا الموضوع، فجزاهما الله خيرا وضاعف مثوبتهما، وزادهما وإيانا وإياكم علما وهدى، وتوفيقا. لا شك أن هذا الموضوع جدير بالعناية، وقد تورط فيه كثير من الناس، وإن كان هناك بحمد الله من هو يحذر الربا، ولكنه قد عم وطم، وقل من يسلم منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» قيل يا رسول الله: الناس كلهم. قال: «من لم يأكله، ناله من غباره[1]. فالأمر خطير بسبب كثرة البنوك وكثرة التساهل وضعف الإيمان، وشدة الجشع في تحصيل الدنيا، وقد سمعتم في هذه الندوة الخير الكثير والفوائد الجمة، وأن الواجب على المؤمن أن يتقي الله -في تحصيل المال- قبل كل شيء يجب أن يعتني بهذا الأمر، حتى لا يقع فيما حرم الله. حب المال كما سمعتم غريزة في النفوس، ولكن يجب على المؤمن أن يحوط هذه الغريزة بما جاء به الشرع، حتى لا ينفلت فيقع فيما حرم الله، فقد قال جل وعلا: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني المال، فلما كان المال محبوبا للنفوس، وبه تقضى الحاجات، وبه يستغني الإنسان عن الحاجة إلى الغير، وفوائده كثيرة، لكن يجب على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه، وأن لا يحمله حب المال على تعاطيه، من غير طريقه الشرعي، وقد جاء الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه[2] فهو مسئول، وقد ذم الله من ألهاه التكاثر حتى زار المقابر، قال : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1، 2]، يعني حتى انتقلتم إلى القبور بالموت، يسمى الموت زيارة؛ لأن القبور ليست هي المقر الأخير، بل وراء القبور شيء آخر، فالناس حين ينقلون إلى القبور إنما ينقلون إليها للإقامة، إقامة مؤقتة ثم يخرجون منها إلى الوقوف بين يدي الله، والحساب والجزاء ثم إلى الجنة أو النار، فذاك هو المقر الأخير: إما الجنة وهي للمتقين، وإما النار وهي للكافرين والعصاة، فالناس على خطر: بين وبين، فالعاصي على خطر من ذلك، وإن كان العاصي لا يخلد في النار، إذا كان مات على التوحيد والإيمان كما قاله أهل السنة والجماعة، لكنه على خطر من دخولها بمعاصيه، التي مات عليها، فليحذر من جملة ذلك الربا الذي توعد الله أهله بالنار، كما قال : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، يعني من عاد إلى الربا بعد ما جاءته الموعظة فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، هذا وعيد عظيم أن صاحب الربا يخلد في النار، وهذا على حالين: إحداهما أن يكون استحله، فيكفر بذلك. نعوذ بالله، ويخلد في النار مع الكفار. من استحل الربا ورآه حلالا وأنكر تحريم الله له، فإنه يكون كافرا، ويكون أتى بناقض من نواقض الإسلام؛ لأنه استحل ما حرم الله من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، فصار من الكافرين وانتقض إسلامه. فإذا استحل الزنا مثلا أو الربا أو اللواط، أو العقوق أو السرقة أو ما أشبه ذلك، انتقض إسلامه، وصار في حكم المرتدين، إذا كان ممن يعلم ذلك أو أقيمت عليه الحجة بذلك، إذا كان بعيدا عن بلاد المسلمين لا يشعر بهذا الأمر. والحال الثاني: أن يكون ما استحل، ولكن حمله حب المال، والجشع حتى فعل الربا بعد العلم فهو متوعد بالنار وبالخلود فيها أيضا، لكنه خلود غير خلود الكفار، خلود مؤقت له نهاية. فإن الخلود خلودان: خلود لا نهاية له، وهذا هو خلود الكفار نعوذ بالله، لا يخرجون منها أبدا كما قال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، ويقول : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، نسأل الله العافية. الخلود الثاني: خلود مؤقت، له نهاية، وهو خلود بعض العصاة، كالقاتل لنفسه والزاني والمرابي ونحو ذلك، كما سمعتم في قوله جل وعلا في قراءة هذه الليلة: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]. فالخلود هنا يشمل المشرك والقاتل والزاني، فالمشرك خلوده دائم. نسأل الله العافية، والقاتل والزاني خلودهما مؤقت، إذا كانا لم يستحلا القتل، والزنا، وهو خلود له نهاية. فالواجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يراقبه وأن يحذر الربا الذي حذر الله عباده منه، وأذنهم بالحرب إن هم فعلوه كما قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] لا نعلم في المعاصي شيئا جاء فيه هذا الوعيد كما سمعتم في الندوة، لا نعلم ذنبا قال الله فيه بهذا المعنى -يعني المحاربة- إلا ذنب الربا نسأل الله العافية. فيجب الحذر مما حذر الله منه، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس، يقول: الناس فعلوا، قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فليس الكثرة قدوة في الباطل. فالواجب اتباع الحق وإن قل أهله، ثم أيضا يجب أن لا يحمله حب المال والجشع في حب المال على تعاطي الربا أو الغش أو الخيانة، أو السرقة أو النهب أو غير ذلك، يجب أن يكون حب المال مقيدا بقيود الشريعة، ومن تقيد بها أفلح وبارك الله له فيما رزقه، وكفاه القليل عن الكثير يقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه[3] خرجه مسلم في صحيحه. فالجشع يضر ولا ينفع ويورد الموارد المعطبة، فيجب الحذر من هذا الجشع ويجب التقيد بقيود الشريعة، فيما أحل الله لك من المكاسب وغيرها، ولعظم هذا الأمر سمعتم ما جاء في الندوة من تلاوة فضيلة الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله، قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172]، فبدأ بالأكل من الطيبات قبل العمل، وهو الشكر، فالشكر هو العمل، لبيان عظم وخطر الأكل الحرام، فإن أكل الحرام يفضي إلى فساد القلب ومرضه، وقسوته أو إلى كفره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يعتني بالحلال، وقال في حق الرسل وهم أشرف الناس: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]. فالرسل أشرف الناس، لكن لينتفع الناس، وليمتثلوا وليستفيدوا عظم الأمر، فكان الرسل يخاطبون بهذا، وأن يبدأوا بالطيبات، فكيف بغيرهم؟ فالواجب أن يعنى المؤمن بأكله الطيبات، ويتوخى بأكله وشربه وغير ذلك من شئونه، مما أباح الله له، وليحذر ما حرم الله عليه من الربا وغيره، فكما حرم الله عليه الربا، كذلك يحذر أن يكون أكله من طريق الرشوة، أو من طريق الخيانة، أو من طريق السرقات، أو من طريق المعاملات الفاسدة، يجب الحذر من جميع أنواع الخبث، حتى لا يأكل إلا طيبا، وحتى لا يعمل إلا طيبا. وسمعتم أنواع الربا وأنه نوعان: الربا يرجع إلى نوعين: ربا الفضل، وربا النسيئة؛ ربا الفضل: بيع الشيئين من جنس واحد، بزيادة في أحدهما، يسمى ربا الفضل، جنيه بجنيهين، درهم بدرهمين، صاع رز بصاعين، صاع حنطة بصاعين، هذا يقال له ربا الفضل، ولا يجوز مطلقا لا يدا بيد ولا نسيئة، فالجنس الواحد من أموال الربا إذا بيع متفاضلا، فهذا هو ربا الفضل: صاع من الحنطة بصاع ومد، صاع بصاع ونصف، أو صاع من الرز بصاع ونصف أو صاعين، أو درهم بدرهمين أو جنيه بجنيهين، أو حلية تزن عشرة جنيهات بحلية تزن أحد عشر، أو اثني عشر من الذهب، وما أشبه ذلك، هذا يقال له ربا الفضل، وهو محرم سواء كان يدا بيد، أو بالنسيئة، إذا باعه بالنسيئة، اجتمع فيه الربا بنوعيه إذا باعه صاع حنطة بصاعين، اجتمع فيه الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، أو باع حلية فيها عشرة جنيهات، بحلية فيها عشرون أو خمسة عشر نسيئة، هذا فيه الربا بنوعيه، هذا ربا الفضل وربا النسيئة جميعا. وربا النسيئة مثل ما سمعتم أن يبيع ربويا بربوي نسيئة، من غير جنسه يقال له ربا النسيئة، كأن يبيع الفضة بالذهب نسيئة، هذا يقال له: ربا النسيئة؛ لأنهما جنسان، هذا ربا النسيئة، فإذا باع فضة بذهب نسيئة أو صاعا من بر بصاعين من الشعير نسيئة، أو صاعا من بر بصاعين من الأرز نسيئة، هذا يقال له: ربا النسيئة ومع هذا دخل في ضمنه ربا الفضل. هذا إذا باع يعني: ذهبا وحده أو رزا وحده، أما إذا باع صاعا من الأرز بصاعين من الشعير نسيئة، فهذا فيه ربا النسيئة فقط؛ لأنه يجوز بيع الصاع من البر بصاعين من الشعير يدا بيد، فلا بأس، لكن إذا كان نسيئة فهذا فيه ربا النسيئة، وإذا كان صاعا من البر الطيب، بصاعين من البر الردي، نسيئة اجتمع فيه الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النسيئة جميعًا، وإذا أعطاه قرضا ألف ريال بألف وعشرة، صار فيه ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه لم يقبضه من المؤجل، وإذا حل الدين فقال: إما أن تربي، وإما أن تقضي، إما تعطيني حقي ولا أزيدك، قال: ما عندي شيء أنا ما أستطيع الآن، أن أسلم لك ألفا أو ألفين على حسب دينه، ولكن لا مانع أمهلني وزد فيمهله في الألف إلى ستة أشهر، أو إلى سنة مع زيادة خمسين ريالا أو مائة ريال أو أكثر أو أقل من أجل إمهاله. وهذا كله محرم بالإجماع ربا النسيئة وربا الفضل، وقد روي خلاف عن بعض السلف في ربا الفضل، ولكنه زال. فربا الفضل وربا النسيئة كله محرم بالإجماع؛ لأن النصوص فيه متكاثرة عن النبي ﷺ، يقول عليه الصلاة والسلام: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد[4] فبين ﷺ أن الجنس الواحد لا يجوز بيعه بجنسه إلا يدا بيد مع التماثل، أما إذا اختلف الجنس، مثل: باع ذهبا بفضة، أو برا بشعير أو بملح، أو برا بتمر جاز التفاضل لكن مع القبض، مع كونه يدا بيد إذا اختلف الجنس، هذه أمور بحمد الله واضحة، فيجب على المسلم أن يعنى بها وأن يحذرها. والواقع اليوم هو أكثر ما يتعلق بالديون، وهي التي تتعاطاها البنوك في إقراضهم للناس، وفي أخذهم البيع على الناس، في اقتراضهم وإقراضهم، فأخذهم الودائع اقتراض، ودفعهم المال لغيرهم إقراض، فالربا في هذا وفي هذا كله ممنوع، فلا يجوز لصاحب البنك ولا لغيره من التجار أن يقرض بزيادة ولا يقترض بزيادة، كله ربا، محل إجماع، ومحل وفاق بين أهل العلم، فإذا أعطوه الودائع على أنه يعطيه في المائة خمسة، أو في المائة عشرة بعد شهر، أو بعد سنة أو أقل أو أكثر، هذا هو الربا المحرم، وهو في الحقيقة عند التحقيق اجتمع فيه ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه أعطاهم ألفا وزيادة مؤجلة، فصار فيه ربا الفضل وربا النسيئة جميعا. أما ما يتعلق بالبنوك الإسلامية بحمد الله لها وجود، وقد كثرت ونسأل الله أن يزيدها كثرة، وأن يوفق القائمين عليها لإصابة الحق، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان ومن دعاة النار، وينبغي أن يعلم أن لها أعداء، ولها خصوم؛ لأن أصحاب البنوك الربوية لا يرضون عنها ويحبون أن يشوهوا سمعتها مهما قدروا، حتى تبقى لهم مآكلهم في هذه البنوك الربوية، فهذه البنوك الإسلامية مهما أمكن، ينبغي أن تساعد وينبغي أن تشجع، ومتى وقع منها خطأ أو زلل وجب أن يصلح، وأن يوجهوا إلى الخير وأن يساعدوا على وجوه الإصلاح، حتى يستغنى بهم عن البنوك الربوية وحتى يرتاح المسلمون من هذه البنوك الربوية، ويضعوا أموالهم في البنوك الإسلامية، وقد اطلعنا على نظام بعضها، ودرسه أيضا مجلس هيئة كبار العلماء في هذه البلاد، واتضح له بالأكثرية سلامتها من الربا، وأنها جيدة، هذه بعض البنوك التي اطلعنا عليها، ولها لجنة فقهية تشاور، وتعرض عليها المعاملات وتقر ما يوافق الشرع، وتمنع ما يخالف الشرع، وليست معصومة، هم فقهاء أو علماء وليسوا معصومين، قد يقع الخطأ منهم ومن غيرهم، لكنها في الجملة بنوك تتحرى الأمر الإسلامي، وتتحرى المعاملة الإسلامية، وهي تعمل بمضاربات، بمضاربة تشتري السلع وتبيعها بفائدة، وما تجمع يقسم بين المشتركين، لهم نظام في ذلك معروف. فالحاصل أن هذه البنوك لها أعداء ولها خصوم، فالواجب أن تشجع وأن يعتنى بها وأن يوصى القائمون عليها بالعناية والاجتهاد، والحذر مما يخالف الشرع المطهر، ومتى عثر على شيء من ذلك، وعلم طالب العلم شيئا من ذلك، أرشدهم ونصحهم ووجه إليهم ما بلغه في ذلك، حتى يكون التعاون على البر والتقوى، وقد سمعتم أيضا ما يتعلق بالتورق، مسألة التورق، وهي ما يسميها بعض العامة الوعدة، معاملة الوعدة، ويقال لها: التورق عند الفقهاء، وهي كما سمعتم جائزة عند جمع من أهل العلم، والقول بجوازها هو قول جمهور أهل العلم، وهي في الحقيقة تعين على البعد عن الربا، وتساعده على قضاء حاجته من غير ربا، وهي معاملة واضحة في حلها من الشرع، داخلة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]. والمحتاج قد يضطر إليها، أو إلى الربا، ليس كل أحد يجد من يقرضه، أو يهبه فيضطر صاحب الحاجة في قضاء دين ألجئ إليه، أو لزواج أو لعمارة مسكن، أو غير هذا من الحاجات، فيشترى هذه السلعة المعينة، سيارة، أو أرضا، أو سكرا، أو خاما، أو غير ذلك، يشتري من هذه السلع إلى أجل معلوم، ثم يبيعها هو بالنقود ليقضي حاجته، فهو لم يقصد السلعة نفسها، وإنما قصد بيعها ليستفيد من ثمنها في حاجته التي عرضت له، وهذا البيع قد يقع، حتى من التجار، وقد يشتري التاجر السلع، ما أراد السلعة وإنما أراد بيعها لحاجات أخرى؛ لأن عنده زبونا يشتري هذه السلعة، ويريدها، وهو إنما أرادها ليبيعها، وليس في هذا محذور، يشتري السلعة للبيع، فالتاجر يشتري السلع لا ليستعملها، يشتريها ليبيعها، فهذا الذي محتاج، اشتراها ليبيعها أيضا. لكن الملاحظ مثل ما سمعتم في الندوة، أن بعض الناس لا يحسن شراءها ولا يحسن بيعها، هذا هو الخطأ الذي يقع في مسألة التورق، فالواجب على البائع أن يبيع ما قد ملك، لا يبيع ما لا يملك، يبيع الشيء عند التجار؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: لا تبع ما ليس عندك[5]، ويقول: لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك[6] فلا يبيعها وهي عند التاجر، أو يقبض الثمن، يقول له: أعطني ثمنها، لا، هذا ما يجوز أيضا، هذا منكر، فلا بد للمشتري أن يقبضها ويحوزها، ثم يبيعها بعد ذلك في يومه أو في غد أو بعد أيام، هذا هو الطريق السليم، فالخلل يقع من البائع أو من المشتري في الكيفية، وإلا فأصل المبايعة والمعاملة لا بأس بها، على الصحيح، وإن كان بعض أهل العلم قد أبى ذلك، ولكن الصواب هو حلها، كما قال جمهور أهل العلم، ولكن يجب على البائع أن لا يبيع إلا ما كان عنده مقبوضا محيوزا، ثم المشتري كذلك لا تحمله العجلة على أن يبيع قبل القبض، يقبض ويحوز، ثم بعد هذا يتصرف بعد ذلك، ولا يبيعها على من اشتراها منه، فيقع في العينة، ولكن يبيعها على الناس، على الآخرين، من غير تواطؤ بينهم وبين البائع، يشتريها ويحوزها، ثم يبيعها في السوق، يبيعها في بيته، يبيعها في أي مكان بما يسر الله له، ويقضي حاجته، هذه هي التورق، وهذه هي الوعدة. وقد يقع بعض الناس أيضا في مسألة الوعدة في منكر، إذا لم يقضه المشتري تحيل في الزيادة عليه، لا يستطيع أن يقول أنا أمهلك، لكن بزيادة فيقع في ربا الجاهلية، ويفتضح بين إخوانه المسلمين، فيتحيل إما بعقد وهمي ما له حقيقة، يكتبان بينهما عقدا بزيادة، الدين ثلاثة آلاف فيكتبان عقدا ليس له حقيقة بأن عنده له ثلاثة آلاف وستمائة، فيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، والله يعلم ما في القلوب، وما هي الحقيقة، هذا أعظم في الخداع والإثم، نعوذ بالله، وتارة بعقد يسمى التصحيح، يعقدون عقدا جديدا يسمى التصحيح، ويسمى قلب الدين، فيقول: يا فلان ما أعطيتني، حل الدين ما أوفيتني، قال: ما عندي شيء، أنا عاجز، أمهلني، يقول: لا، اشتر مني سلعة أخرى إلى أجل ثم بعها وأوفني الدين الأول، حتى يقلب عليه الدين، ويزداد الدين، فالدين عليه ثلاثة آلاف، أو أربعة آلاف فيبيعه سلعته مثلا إلى أجل معلوم بخمسة آلاف، بستة آلاف، ثم هذا المشتري يبيعها ويعطيه ثمنها عن دينه الأول، وهذا أيضا منكر؛ لأنه ألجأه إليه، وهو الذي يسمونه التصحيح والتسديد، هو تسديد في الحقيقة إلا أنه تحيل؛ لأنه تحيل على الربا، وتحيل على ظلم أخيه، وعدم إنظاره، والله يقول سبحانه: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]. ثم مثل ما سمعتم في الندوة، ينبغي لمن يعامل الناس أن يرفق بهم، وهذا من أسباب أن الله جل وعلا يحفظ عليه ماله، ومن أسباب أن المدين يوفي بنفس سامحة، بنفس طيبة، فالرفق بالناس وعدم التثقيل عليهم، وعدم الزيادة في الربح الكثير، هذا مما يشرع، ومما يحبه الله، ومما يسهل على المدين قضاء الدين، ومما يجعل نفسه طيبة ليس فيها شيء على أخيه، فالتسامح في هذا، وجعل الربح ليس بالكثير، كثلاثة في المائة واثنين في المائة، وما يقارب ذلك، هذا مما يسهل على المدين قضاء الدين، ويجعله يحرص على قضاء الدين بنفس طيبة، أما إذا تذكر أنه حمله شيئا كثيرا، ثقل عليه وصار في قلبه عليه شيء، لكونه استغل عجزه وحاجته، وإن كان أصل الزيادة لا حد لها، الأرباح ليس لها حد، والناس يختلفون في الربح، الناس يختلفون: منهم من هو سريع الوفاء، فيكتفي التجار منه بالشيء القليل من الربح، ومنهم من هو معروف بالمماطلة، وقلة الوفاء فيزيدون عليه، ثم الأجل يختلف: قد يكون الأجل قليلا فيقل الربح، وقد يكون الأجل طويلا فيزيد الربح، يختلف، وقد ثبت عن الرسول ﷺ، أنه اشترى بعيرا ببعيرين، من إبل الصدقة. فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف الناس، لكن المداين أو صاحب المال مأمور ومشروع له أن يرفق بإخوانه، وأن ينفس لهم، ويسهل عليهم، وأن يجعل الربح قليلا مناسبا حتى ينشطوا في القضاء وحتى يشكروا له عمله، وحتى يوفوه بنفس طيبة، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، ونسأل الله لإخواننا المسلمين صلاح القلوب، وصلاح الأعمال، وأن يعيذهم من شر أنفسهم والشيطان، وأن يعينهم على اتباع الشريعة، وأن يكفينا شر البنوك، وأن يهدي أهلها للرجوع إلى الحق، وترك ما حرم الله عليهم من الربا، وأن يوفق ولاة الأمور للقضاء على هذا الربا، بكل عناية وأن يسهل للمسلمين البنوك الإسلامية الموفقة، التي تعينهم على طاعة الله، وتحول بينهم وبن محارم الله، إنه جل وعلا جواد كريم. وأعود فأشكر للأخوين الشيخين ما بذلا في هذه الندوة، من جهود مشكورة، وكلام طيب نافع، فجزاهم الله خيرا وزادهما من كل خير، ووفقنا جميعًا لما فيه صلاحنا، وهدايتنا وسلامتنا من كل سوء، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. ولا حول ولا قوة إلا بالله