تُوصف “اللحظة المهمة، والتي عادة ما تؤدي بصاحبها إلى تحول جذري في الموقف أو المعتقد” بالإنكليزية بأنها The Road to Damascus (طريق دمشق)، وهو مصطلح مبني على لحظة اعتناق بولس الرسول المسيحية، وذلك أثناء توجهه من القدس إلى دمشق التي انطلقت منها دعوات المحبة والتسامح والسلام والتعايش.
واليوم، يبدو طريق دمشق لأطراف كثيرة ضبابياً، ففي حين بدأت دول مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت وتونس تعيد العلاقات الدبلوماسية مع سورية، لاتزال دول عربية أخرى تعتقد أن الأخيرة لم تقدم ما يكفي لاستعادة عضويتها في جامعة الدول العربية. وغيابُ الإجماع هذا يُبقي دمشقَ وحيدةً معزولة عن بيئتها العربية التي لطالما كانت هي من أركانها المتينة.
إن استمرار وضع سورية على ما هو عليه وبقاؤها خارج المنظومة العربية ليس في مصلحة أي طرف بما في ذلك الحكومات العربية والغربية. وقبل هذه وتلك، لا ننسى ما تسببه هذه الحالة من عذابات للشعب السوري المنهك والمُحاصر.
والواقع أن تطبيع علاقات سورية مع محيطها العربي لا ينطلق من النوايا الحسنة والأخوة العربية فقط، على رغم أهمية هذين العاملين، بل من مجموعة ضرورات سياسية واقتصادية تلعب وستلعب دوراً كبيراً في حاضر المنطقة ومستقبلها.
وهذا يستدعي من الجامعة العربية أن تبادر إلى التواصل مع دمشق، لطي صفحة الصراع والحرب بأسرع ما يمكن، وبدء صفحة جديدة من التعاون المشترك، بما يمكّن سورية من النهوض من تحت الأنقاض، ويسمح بالحفاظ على أرواح المدنيين، والقضاء على ما تبقى فيها من الجماعات الإرهابية، ويمنع تحولها إلى هدف سهل أمام أطماع الهيمنة الإقليمية سواء كانت إيرانية أم تركية.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل موقف الغرب أولاً فهو سيلعب دوراً كبيراً في إعادة إعمار سورية عند تحليل العوامل الخارجية التي تؤثر على دخول سورية من جديد في المنظومة العربية.
ستواجه الدول العربية وفي مقدمها دول الخليج العربي الراغبة في تطبيع العلاقات مع دمشق، تحديات قوية، لأن خطوتها سيتعارض مع العقوبات الأميركية، كما ستصطدم بمواقف الكيانات السورية الرئيسة المختلفة والمتباينة.
وفي المقابل فإن استمرار هذه العقوبات، وسياسة الضغط عموماً، لن يؤتي ثماراً في سورية بل سيزيد فقط من معاناة أهلها.
وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن التعاطي مع سورية يجب أن يراعي خصوصيتها، فلا يجري التعامل معها كإيران مثلاً. لقد ارتكبت الإدارات الأميركية السابقة عدة أخطاء في سورية، ما سمح إلى حد كبير بانتشار تنظيمات إرهابية من جهة، وتدخل مليشيات مدعومة من إيران من جهة ثانية، وساهم من ناحية ثالثة في تمكّين تركيا من احتلال أراض واسعة شمال سورية، لتحقيق مطامعها بتحويل هذا البلد العربي إلى عمق استراتيجي لها، وتنفيذ مخططها للهيمنة على شرق المتوسط برمته ونشر “الإسلام السياسي”.
لذلك تتحمل إدارة الرئيس جو بايدن مسؤولية مراجعة الاستراتيجية الأميركية في سورية، وإعادة صياغتها بما يناسب المصالح العربية والأميركية في المنطقة.
على هذا الصعيد، ينبغي أن تعلم الولايات المتحدة أن كلّ يوم تضيعه بوقوفها عائقاً أمام عودة سورية إلى المنظومة العربية، يوفر فرصة إضافية أمام إيران لتعزيز تغلغلها في سورية ويزيد بالتالي من صعوبة الحد من نفوذ طهران هناك، أي يساهم في عرقلة تحقيق واحد من أهم أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وهو احتواء الخطر الإيراني.
كما يجب على واشنطن أن تضع في حسبانها أن زيادة انخراط دمشق مع العالم العربي الأوسع، والمشاركة الاقتصادية العربية الكبيرة في مشاريع التعافي السورية، ستجعلها بلا شك ومع مرور الوقت أكثر اعتدالاً، وإن لم تدفعها إلى التخلي عن معسكرها مباشرة. وهذا هدف ثانٍ لطالما سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقه في المنطقة.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه ألسنة اللهب في لبنان الغارق في أزمة متفاقمة ذات وجوه متعددة يبدو أنه لم يستطع الإفلات من براثنها منذ أشهر عدة، يجدر بواشنطن وسدنة العالم الغربي الذين يؤكدون قلقهم المتزايد على لبنان، أن يدركوا أن لا خلاص له من مشكلاته العميقة في معزل عن سورية.
بعبارات أخرى، ليس من قبيل المبالغة القول إن سورية ولبنان صنوان، وما يصيب أحدهما يشتكي منه الآخر. ومن يعرف البلدين وعلاقاتهما التاريخية المتشابكة على أكثر من صعيد، يعرف حق المعرفة أن دمشق لاعب رئيس لابد منه لإيجاد الدواء الناجع لآلام لبنان.
فالتغيرات الدراماتيكية التي جرت أخيراً في المنطقة العربية، أفرزت نمطا جديداً من العلاقات العربية الإسرائيلية آخذاً في الزيادة والإتساع. ولدعم مسار هذه العلاقات لابد من العمل على إعادة سوريا الى الصف العربي وايجاد حل لقضية الجولان بهدوء وروية، بعيداً عن الخطابات الطنانة الرنانة التي لم تغنِ ولم تسمن من جوع على امتداد نصف قرن.
لقد كان موضوع الجولان دائماً ذا حساسية خاصة منذ عام 1967 إذ كان بؤرة الخلاف وأس المشكلات، فكل طرف يتمسك بموقفه منه ويسعى لتكريسه. لذلك لابد من بذل المزيد من الجهود للتوصل إلى حل عادل يُرضي الأطراف كلها.
ومن ينظر للأمر بعين الحكمة يرى أن استعادة سورية موقعها الطبيعي في قلب المنظومة العربية والإقليمية سيعني بالضرورة أنها ستصبح مهيأة وقادرة من حيث المبدأ للعمل على تحرير المنطقة من الإسلام الساسي عامة ومن الإرهاب الذي فتك بها على وجه الخصوص.
هكذا يبدو مفتاح حلّ قضية الجولان في يد واشنطن، فلتسرع بقيادة الرئيس المنتخب جو بايدن حين يدخل البيت الأبيض في الشهر المقبل بإنهاء عزلة سوريا على الصعيدين العربي والعالمي، حتى تجد المشكلة المستفحلة خواتيمها بمباركة الأطراف ذات العلاقة كلها.
لكن من الخطأ تحميل أميركا وحدها تبعات تفاقم الأوضاع في سوريا، فقد حان الوقت كي تصحح الدول الأوروبية أيضاً أخطاءها في سورية. فهي مازالت “تتباكى” بدموع التماسيح على محنة “المدنيين” في محافظة إدلب، التي يسيطر عليها إرهابيون من بقايا التنظيمات التي انتشرت في مرحلة سابقة في سورية وعلى رأسها تنظيم “جبهة النصرة” التابع لتنظيم “القاعدة”، رغم إنكاره ذلك.
والمفارقة أن هذه الدول نفسها تغضُّ الطرف عن التدخل العسكري التركي عبر قوات برية حكومية ومقاتلين مناهضين للحكومة الشرعية في دمشق، كما تشيح بوجهها بعيداً عن الدمار والتهجير والضحايا الذين يخلفهم الغزو التركي وراءه، كرداً كانوا أم عربا.
ورغم ذلك.. لم تتضح، حتى الآن، الكيفية التي ينوي الاتحاد الأوروبي التعامل من خلالها مع مستقبل سورية، مع العلم أن هذه الدولة تعتبر ملفاً حساساً للغاية بالنسبة للأمن والهوية والمصالح السياسية والاقتصادية الحيوية لأوروبا، إذ يعيش نحو مليون من أبنائها كلاجئين في دول القارة العجوز، ويرضخ الاتحاد في حالات كثيرة للضغط التركي خوفاً من أن تنفذ أنقرة تهديداتها بإغراق دول أوروبية باللاجئين الجدد إذا ما فتحت الباب أمام نحو 3.6 مليون لاجئ سوري يقيمون على أرضها.
لذا يجدر بأوروبا، وعوضاً عن مواصلة الجهود لعزل دمشق، وعرقلة المبادرات التي من شأنها إعادة الاعتبار للحكومة السورية على المسرح الدولي، أن تخفف الضغط على دمشق ما سيسمح لها بإنهاء التنظيمات الإرهابية العاملة على أرضها، بما فيها تلك التي تضم الإرهابيين الأوروبيين الذين تخشى دول الاتحاد عودتهم إليها.
والواضح أن إعادة الإعمار الحقيقية ستوفر الفرصة لكثير من اللاجئين، ولاسيما أولئك الذين يعيشون في المخيمات التركية كي يعودوا إلى سورية. وعليه فإن من مصلحة أوروبا أن تساعد سورية على تطبيع علاقاتها الدولية، لا أن تبقيها حبيسة أسوار العزلة الخانقة. في سياق الحديث عن الأطراف المعنية، لا يمكننا إلا أن نؤكد على ضرورة الوقوف عند هواجس دمشق، لأن عودتها وانخراطها في المجتمع العربي والدولي عموماً تتطلب منها تقديم الكثير من الضمانات، ترتبط بالحدّ من النفوذ الإيراني في سورية، وضمان أمن وسلامة اللاجئين الراغبين بالعودة وعدم استهدافهم بأعمال انتقامية.
بالإضافة إلى هذا كله، ستتكفل دمشق بإنفاق أموال إعادة الإعمار بشكل نظيف وحماية هذه المخصصات من الفاسدين. ومن المهم أيضا أن تكون المفاوضات والاتفاقات هي الوسيلة التي يجري من خلالها تلبية مطالب الأطراف كلها، فالإملاءات لم تكن يوماً أداة صالحة للتخاطب مع دمشق.
ويبدو أن القيادة الإماراتية كانت سبّاقة إلى إدراك هذه الحقيقة، الأمر الذي حملها على إعادة مد جسور التقارب وفتح سفارتها في دمشق أواخر العام 2018. وانطلقت الإمارات في خطوتها الشجاعة تلك من قناعتها بأن الحوار، وليس الإقصاء، هو سبيل الحل.
وهذا ما عكسته تغريدة وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2018، التي قال فيها إن “الدور العربي في سوريا أصبح أكثر ضرورة تجاه التغوّل الإقليمي الإيراني والتركي، وتسعى الإمارات اليوم عبر حضورها في دمشق إلى تفعيل هذا الدور وأن تكون الخيارات العربية حاضرة وأن تساهم إيجاباً تجاه إنهاء ملف الحرب وتعزيز فرص السلام والاستقرار للشعب السوري”.
وباعتبار أن ما يربو على عشر دول عربية تقيم علاقات سياسية ومباشرة مع اسرائيل، يجب استثمار هذه العلاقات، وفتح الأبواب مجدداً أمام دمشق بهدف الوصول الى سلام مع اسرائيل.
وفي هذا السياق يجب العمل وبشكل سريع لإعادة أراضي شرق الفرات الى السيادة السورية الأمر الذي يُعجل في حل الأزمة الخانقة التي تعاني منها دمشق حالياً من ناحية، ويُشجع السلطات السورية على التخلي عن الدعم الإيراني من ناحية أخرى.
وإذا ما أدى العرب دورهم في هذا الملف بالشكل الصحيح، فإن ذلك سيمثل خطوة كبيرة على طريق إعادة إحياء العمل العربي المشترك، ودليلاً على أن العرب مازالوا قادرين على اجتراح الحلول واتخاذ القرارات المتعلقة بمشكلاتهم وتطبيقها، وإن بدعم ومساعدة الأصدقاء.
فالأزمة السورية هي واحدة من أعقد الأزمات التي شهدتها البلاد العربية في التاريخ المعاصر، وقد ثَبُت أن حلها لن يكون ممكناً إلا بتضافر الجهود الإقليمية والدولية. وعليه فإن إنقاذ السوريين وتوفير حل سياسي لأزمتهم، التي تفاقمت عقب انتهاء معظم الأعمال العسكرية، يعزز الثقة بالعمل الدبلوماسي العربي، ويزكي شعلة الأمل لدى الشعوب العربية بأنها مازالت قادرة على تحقيق مستقبل أفضل.
ومن هنا أدعو أبو ظبي كدولة واسعة النفوذ والتأثير لعقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية العرب بدعم من أميركا واسرائيل يدعى إليه وزير الخارجية السوري لبدء جلسة حوار جديه مفتوحة لرسم معالم حل المسألة السورية من جوانبها كافة.
لهذا كله، أما آن للأطراف كلها، العرب، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وحتى سورية نفسها، أن تجد “الطريق إلى دمشق”؟. نقلا عن النهار