كتب – حسن عبد الغني
نعت وزارة الثقافة المصرية، المفكر والخبير الاقتصادي جلال أمين، الذي توفي أمس الثلاثاء عن عمر يناهز 83 عاماً.
وكان أمين أستاذاً للاقتصاد في الجامعة الأميركية في القاهرة، وهو ابن الأديب أحمد أمين. كما نعى المجلس الأعلى للثقافة في مصر
والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، أمين، الذي ترك أكثر من 30 كتاباً مؤلفاً بالعربية. وقال الاتحاد العام للأدباء والكتّاب
العرب في بيان إن “الثقافة العربية خسرت واحداً من أهم المفكرين الذين سخَّروا علمهم وأفكارهم لفهم الواقع وتحليله واستخلاص
النتائج منه لقراءة المستقبل”.
كان جلال أمين، المولود في العام 1935، مهموماً بقضايا العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي الذي لا يقل أهمية في رأيه
عن الاستقلال السياسي. ومن أبرز مؤلفات أمين “ماذا حدث للمصريين.. تطور المجتمع المصري في نصف قرن (1945-1995)”
، والذي يشرح التغير الاجتماعي والثقافي في حياة المصريين خلال تلك الفترة. إضافة إلى “محنة الاقتصاد والثقافة في مصر
” و”الدولة الرخوة في مصر” و”التنوير الزائف” و”العولمة والتنمية العربية” و”المثقفون العرب وإسرائيل” و”شخصيات لها تاريخ”.
استطاع أمين أن يجعل من سيرته الذاتية “ماذا علمتني الحياة”، التي صدرت طبعتها الأولى عن دار الشروق العام 2007،
أداةً لكشف المجتمع الذي نشأ فيه. وفي الكتاب، قارن بين ظروف نشأته وظروف نشأة والده، ومن ثم أولاده وأحفاده، ويرجع الملاحظات
الخاصة إلى ظواهرها وأصولها العامة، فيربط الخاص بالعام، ويتحوَّل الفرد إلى مرآة عاكسة لمجتمعه، ويتحول كتاب السيرة الذاتية
إلى كتاب يتناول حياة أجيال بكاملها. والكتاب من أجمل ما كتب جلال أمين، وفيه يحكي عن الجيل الرابع من أسرته “أولاد الأحفال”
، فيقول: “أتساءل ماذا كان سيكون شعور أبي لو علم أن واحداً من أحفاده سيكسب رزقه من الغناء بالإنكليزية، أغان تروج ل
صابون أميركي مشهور في واحدة من القنوات العربية؟”.
ويقول صاحب “ماذا علمتني الحياة”: “لقد تذوقت طعم الصيت والشهرة، منذ كنت تلميذاً صغيراً في المدرسة الابتدائية
، إذ كلما دخل زائر أو مفتش في أحد دروس اللغة العربية، وجدت المدرس يهمس في أذنه بأني ابن الاستاذ أحمد أمين،
وقد وجدت الأمر لذيذاً واستطعمته، ولا شك أن هذه التجربة المبكرة قد غرست في نفسي بذور الإدمان، أي إدمان السعي إلى ذيوع الصيت ولفت الأنظار”.
ويحكي جلال أمين عن المرحلة الجامعية وتخرجه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وقصة انضمامه في تلك الفترة إلى حزب البعث،
ومقابلته مؤسس الحزب البعث السوري ميشيل عفلق، وكيف ترك الحزب بعد فترة، متقلباً بين اتجاهات ايديولوجية مختلفة.
وحصل جلال أمين على بعثة لدراسة الاقتصاد في جامعة لندن، ونال شهادتي الماجستير والدكتوراه، واقترن في تلك الفترة
(1963) بزوجته الانكليزية جان التي تعرف إليها في الجامعة، واعتبرها الحب الحقيقي في حياته، والتي انتقلت معه للعيش
في مصر عقب عودته، وتعيينه في جامعة عين شمس مدرساً للاقتصاد…
يروي صاحب السيرة ميوله السياسية، وآراءه في كل من المرحلتين الناصرية والساداتية، والمضايقات التي تعرض لها نتيجة جهره
بمعتقداته التي جرّت عليه متاعب عديدة، فانتقد نظام الدولة “الخانقة” في عهد عبدالناصر، والدولة “الرخوة”
في عهد السادات، وكذلك امتد انتقاد الكاتب إلى المرحلة الحالية.
في مطلع الثمانينات، عُيّن جلال أمين استاذاً في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وبدأ في نشر مقالات في شؤون الحياة الاجتماعية
والسياسية والثقافية، وكان معظمها في صحف معارضة، ويقول: “مع تكرار تجربتي في الكتابة والنشر، استقر في
ذهني أن من الممكن بالفعل أن أصبح كاتباً، أي أن أحقق ذلك الأمل القديم الذي بدأ يراودني منذ مطلع الصبا، لكنه كان
حينئذ أقرب إلى حلم من أحلام اليقظة، وقد زادت ثقتي في ذلك شيئاً فشيئاً
بنشري كتاباً بعد آخر في موضوعات غير اقتصادية”.
ويتناول أمين طبعاً تحوله الفكري العميق والهادئ، من القومية في بواكير شبابه، الى الاشتراكية، والمادية الوضعية، إلى
أن بلغ مرحلته الاخيرة في نظرته الايجابية والمتعاطفة مع الدين عموماً والإسلام خصوصاً، وهي نظرة أخرجته من صف اليساريين،
لكنها لم تضعه بالضبط في خانة “الإسلاميين”، وإن كان واضح التعاطف معهم..
تحوله الى التعاطف مع الدين، جاء بعدما عاش في الغرب ولاحظ الخواء الروحي الموجود، ما جعله يشكك في جدوى مفهوم
“التقدم”. ويتوسع أيضاً في هذا المفهوم في كتابه “خرافة التقدم” الصادر عن دار الشروق…
من الممكن اعتبار كتاب “رحيق العمر”، الجزء الثاني من “ماذا علمتني الحياة؟” (دار الشروق، 2007)، فهو استكمال له،
ولكن ليس بمعنى أنه يبدأ من حيث ينتهي الأول، بل بمعنى أنه أيضًا سيرة ذاتية. إنه يسير موازيًا للكتاب الأول، فهو مثله يبدأ
من واقعة الميلاد، بل وقبل الميلاد، وينتهي إلى اللحظة الراهنة، لكنه لا يكرر ما سبق قوله، وكأننا بصدد شخصين يصفان حياة
واحدة، لكن ما استرعى انتباه أحدهما، واعتبره يستحق الذكر، غير ما استرعى انتباه الآخر.
على أن كتاب “تجديد جورج أورويل.. أو ماذا حدث للعالم منذ 1950؟”، هو آخر كتب جلال أمين، وقد صدر عن دار الكرمة للنشر
والتوزيع. ويرى أمين أنه من المفيد، بل من الضروري، “تجديد جورج أورويل”، أي تتبع ما جدَّ من تطورات في طبقة الممسكين
بالسلطة الذين يمارسون القهر في العالم، والأسباب التي أدت إلى هذه التطورات، ونوع الرسائل التي يرسلها أصحاب
السلطة الجُدد إلى الناس من قبيل غسيل المخ. فإن ما طرأ من تطور لا يقتصر على أساليب الكذب، بل يطاول أيضاً مضمون الكلام
الكاذب. الكتاب كاشف، فكما أكد أورويل، ظواهر الأمور غير بواطنها، وما يُقال لنا كثيراً ما يكون عكس الحقيقة بالضبط،
وعلينا أن نبذل جهداً فائقاً لكي نرى ما يدور أمام أعيننا.
كتب جلال أمين في الاقتصاد والعولمة والمجتمع، كذلك اهتم بالأدب فعيّن في أحد المواسم رئيساً للجنة جائزة بوكر وتعرض
للكثير من النقد، وكتب عن شخصيات مشهورة في كتابه “شخصيات لها تاريخ”، بدءاً من جمال عبد الناصر، أنور السادات
، حسني مبارك، إلى مارغريت ثاتشر وتوماس فريدمان. ومن نجيب محفوظ، يوسف إدريس، محمد شكري، إلى أحمد زويل والطيب صالح.
ومن أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، ليلى مراد، تحية كاريوكا، ويوسف شاهين، إلى إدوارد سعيد وجورج أورويل.