متابعة عادل شلبي
انتفض من نومه يتصبب عرقاً أنفاسه تسابق بعضها البعض والقلب يرتجف بين مهابة ورجاء كابوس
ليلته هذه كان أكثر ألماً.. انتفضت الزوجة -كعادتها- هى الأخرى
وقد أحزنها ما ألّم بزوجها من ليله الذى لا تهدأ ثورته و دموعه التى بللت ثيابه..ربتت على كتفه وضمته ضمة أم حانية على طفلها تنشر غيض من فيض حنانها
زينب : أهو كابوس كل ليلة يا حاج ؟
بأنفاسه المتحشرجة وكلماته المتقطعة أه ..أه .. نعم يازينب لكنه كان أكثر ألماً ..تهشمت عظامى..نار هائلة تأكل الزروع الخضراء بقريتنا وعجوز وحده يطفئ نارها
…حاولت القبض على نبضات قلبه المرتجفة علها تضع متاريساً أمام خوفه بدفء حديثها …خير يارب… اطمن يا حاج
صابر: من يطفئ النار والدى وكلما حاولت مساعدته نهرني بقوة
…كان آذان الفجر يصدح فى كل مكان..أخذا يردداه
زينب : خير يا حاج إن شاء الله ..مازالت تسكب من صبرها عليه عله يُلملم أنفاسه المبعثرة فى أركان الحجرة
صابر : بصوت الناى الحزين ..كان والدى يعلق جلبابه الطويل فى أسنانه ويجرى بقوته الفتية نحو عمتى لينقذها من النار وهى تجلس وحولها فقراء البلدة
حديثه كان يذهب بها أزمان بعيدة وهو يحاكيها
…..ما تفسيرك يا زينب ؟!
عادت من شرودها وبشئ من الإنكار…خير..خير إن شاء الله
لم يجف نهر أحزانه بكلامها الذى يجانبه الصواب
…أخذته الذاكرة وصارت به فى دروب الماضى يلملم أفكاره وأحزانه المبعثرة هنا و هناك حتى نشر النهار أثوابه لكنه لم يغمض له جفن أو يهدأ له بال
..كان الزمان يتقاسم لصابر أحزانه..نهار بعقل شارد وليل بأحلام موجعات …ترك كل شركاته وأمواله يديرها ابنه الوحيد وابنته ينعمون خيره وثروته الطائلة التى أفنى حياته يجمعها لهم ولم يجد بُداً من الراحة واعتزال صراع الحياة التى كان يواجهها كل يوم بدرعٍ وسيف
…ولأن للثروة بريقها وللمال فتنته وللأجيال أحوال تتغير بعد أجيال نسى الحاج صابر وعده لوالده منذ أمدٍ بعيد
…تناسى ليالى الشتاء كيف كانت تمر عليهم ملتحفة أجسادهم بغطاء باْلٍ أكل منه الدهر وشرب ترتعد فرائسهم من شدة البرد وأهواله
لبيت كانت أسقفه من ألواح الخشب وأعواد الغاب فلا يختلف حال منزلهم عن أحوال الفضاء الرحب إلا فى جدران تحجب عنهم شفقات المارين وعطفهم
…تركت تلك الحقبة المريرة فى حياته بصمة دفعته للعمل والخروج من نفق الفقر المظلم القاتل فثابر سنينا حتى تحققت أحلامه
…وفى الصباح صور من الماضى المرير تتراقص بأشهى وألذ أطباق الطعام أمامه بعدما أنهك قواه كابوس تلك الليلة فألقى على مسامعهم قنبلة أشعلت اللهب فى عقولهم وأفئدتهم وتجمد المكان بهم
كيف تكون ثلث ثروته لعمته سعاد المجنونة وأولادها !!!
…اندهش الجميع لما سمعوا إلا زوجته التى شاركته اخفاء الحقيقة سنينا وأيام
…ذهول أصاب الأبناء وصارت تساؤلاتهم لا تلاحقها عقارب الساعة ثم غضب وزجر وتمتمات هنا وهناك وانقلب البيت الساكن إلى بحر هائج الأمواج تسير سفنه على عكس الشراع
ظنوا أن عقل العائلة الكبير أصابته لوثة كما أُصيبت عمته أو أنه وهن عقله كما وهن جسده أو به مس أو أن أحداً قد سحره
…أحضرت الأم البخور وأخذت تطارد العيون التى تلاحقهم بأيات من القرآن
ارتسمت وجوه الأبناء تقلبات شهر أمشير ورأى ما أحزنه ممن تعود طاعتهم العمياء وخشوعهم أمام نظراته لهم
اليوم أصبح الصدام والعناد والرفض يتملك الأبناء ووقفت الأم حائرة بين زوجها وأولادها وتلبدت سماء
بيتهم بالغيوم وضاجعت سعادتهم الخطوب والهموم
…كان صابر يخاطب ذاته دوماً :تلك سحابة عابرة ..أبنائى تعودت طاعتهم وبرّهم لم يقسوا عليّ يوماً ..سيعودون لرشدهم عما قريب وسيشعرون بمواجع ضميرى عن سنينٍ من ضياع حقٍ سَأرده اليوم لأصحابه عل جدهم يستريح فى قبره
…نام ليلته لم يفزعه الكابوس واستفاق تغمره السعادة لفرحة غمرت والده وبسمات وأدعية رأها فى ليلة أمس
لكنه ما كان يدرى أن الكابوس قد يأتيه حياً واقفاً على الأقدام وسط النهار
…فتحت الخادمة لمن يطرق بابهم …رسالة تخصه وحده …وقّع عليها وكلما قرأ سطراً غارت قواه إلى أسفل كبعير فى فلاةٍ فاجئته رمال متحركة
… الأب يدركه الهلاك من حجّر قلوبهم على طاعته وبّره قبل حجرهم على أمواله وهو يستدعى من ذاكرة الزمان الطويل عنائه عليهم وسنين ألمه وحرمانه حتى تهاوى به جسده أرضاً
يتلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد…. سأتيكم كل ليلة يا أولادى يا أصحاب المال حتى تتوسلوا من الليل قدوم النهار .