تقرير /عارف نبيه إن قوس نضال الشعب المصري مفتوح منذ تاريخ بعيد .. هذا ما تعلمه الإنسان من أمه(الأرض) التي أنجبته فأنهارها تثور فيضانا
و قمم جبالها تصب غضبها حمما و براكين وباطنها يثور زلازل مدمرة و أمواج بحارها و محيطاتها تثور هي الأخري مدا وطغيانا وأنوائها
تحمل في طياتها أعصاير مدمرة.. و البعض منها يحمل بين ملامحه الموت و الدمار والبعض الآخر يحمل بين حناياه الخصب و النماء.
و كأنهم أيادي القدر التي تعيد تشكيل و رسم ملامح وجه الأرض من جديد.
و الثورات وإن تعددت فاسبابها واحدة أو تكاد تكون متشابهة فهي إما الشعور بعدم الرضا أو ردة فعل لأسلوب إدارة أو فساد أفراد أو مؤسسات. أو رغبة في التحرر من سيطرة استعمارية.
و لمصر تاريخ طويل من الثورات أثبت من خلالها الشعب المصري أنه برغم تميزه بالصبر و التريث إلا أنه ليس شعبا خانعا صامتا
علي الهوان وشهدت صفحات التاريخ انه شعب تجاوز ما حل به من كوارث تلمسا لطريق النجاه و بعد فيض الكيل به يتجه الي الخلاص
.. خلاص ليس له طريق سوي الثورة و تغيير الأمر الواقع.
و مصر عبر تاريخها الطويل تواكب علي حكمها فراعنة و أباطرة.. ملوك و رؤساء و تألب علي أرضها الطيبه الغزاه و الفاتحون وكان شعبها يوالي الصالحين من الحكام وينبذ الفاسدين.
و منذ عهد الفراعنة عبرت الكتابة الهيروغليفية بمفردات مختلفة عن العنف والتآمر و التمرد و العصيان و غيرها من المصطلحات
باعتباره أول و أكثر شعوب الأرض قياما بالثورات متنوعة الأبعاد فمنها البعد الاقتصادي و الاجتماعي و الديني و الوطني.
. ففي عهد الأسرة الثانية قامت أول ثورة دينية في التاريخ حين تمرد المصريون علي عبادة الإله حورس إله الشمال
و تحولوا الي عبادة الإله ست إله الجنوب وكان من تداعيات تلك الثورة أن زادت مساحات الرؤي الدينية (تعدد الآلهة)
وقبل أن تغادر الدولة القديمة عصرها قام المصريون بأول ثورة إجتماعية ضد الظلم و الإقطاع كنتيجة طبيعية لطول حكم الفرعون
بيبي الثاني والذي إمتد ل94 عاما وهذا ما قصته لنا (بردية إيبور) وقصة الفلاح الفصيح الشهيرة وبينما نجحت الثورة في
إسقاط نظرية الملك الإله إنهارت الدولة ذاتها ودخلت البلاد في عصر الفوضي و الإنقسام لمدة 180 عاما أطلق عليه المؤرخون عصر الإضمحلال الأول.
وفي أزهي عصورها شهدت مصر أعظم ثورة دينيه في العالم علي يد اخناتون الذي أراد توحيد الآلهة في إله واحد رمز له بالشمس
وكان هدفه تغيير المعتقدات عندما نادي بعبادة آتون دون الآلهة الأخري وكان هذا إنقلاباً علي فكر ديني ظل راسخا لقرون
إلا أن ثورة مضادة عنيفة قادها كهنة آمون أعادت الأمور إلى سابق عهدها بعد إغتيال اخناتون.
وفي عهد رمسيس الثالث عرفت في البلاد أول ثورة عمالية منظمة قام بها عمال المدينة الذين تأخرت رواتبهم وقد تركت لنا برديات هذا العصر مفردات جديدة مثل
.. (عصيان.. تآمرات.. إغتيال سياسي.. محاكمات.. حريم القصر..) مفردات أفضت الي إغتيال الفرعون رمسيس الثالث و جلوس ابنه رمسيس الرابع علي العرش.
وقد شهدت مصر أيضا ثورات إرتبطت أسبابها بحب الوطن وعشق ترابه و هي ما أطلق عليها المؤرخون إسم الثورات الوطنية وتذكر صفحات التاريخ أن أول حركة قومية يمكن أن توصف بأنها ثورة هي تلك التي تعاقب علي زعامتها ثلاثي فراعنة الأسرة ال17 قادها الأب سقنن رع و أكملها ولداه كامس و أحمس الذي إستطاع أن يحرر البلاد من الهكسوس بعد إحتلال استمر حوالي 200 عام.
وفي القرنين السابع و السادس ق. م. كانت مصر مسرحا لحوادث لم يذكر التاريخ مثيلا لها من قبل فقد إصطدم النفوذ الإثيوبي
و النفوذ الآشوري وتقاتلوا علي أرض مصر ووقف الشعب المصري موقف المراقب حتي ضعف الفريقين فإنقض المصريون
عليهم بزعامة ابسماتيك الأول (650-610ق.م.) حتي عادت مصر الي شعبها الذي واصل النضال أثناء الإحتلال الفارسي
(525-331ق.م.)و أطلقوا علي تلك السنوات عهد الويلات حتي تخلصوا من الحكم الفارسي بمساعدة أعداء الفرس
(الإغريق.. الفينيقيين.. الليبيين) كذلك لم يهنأ البطالمه بالاستقرار في ربوع مصر إذ كان عليهم مواجهة ثورات المصريين من حين لآخر
باعتبارهم نظاما غير مرغوب فيه. وتجددت الثورات في العهد الروماني أثر إضطهاد أصحاب الديانه المسيحية خاصة في عهد دقلديانوس ولم تهدأ حتي بوصول الإمبراطور
قسطنطين الذي إعتنق المسيحية بل عاد الإضطهاد أشد ضراوة لإختلافات عقائدية بين كنيستي مصر و روما.
وإبان حملة بونابرت علي مصر (1798-1801) إنتقل عبء المقاومة الي الشعب المصري بعد هزيمة قوات الحامية العثمانية
وفشل أمراء المماليك في التصدي للحملة ولم ينجح أسلوب القمع و الإرهاب في القضاء علي المقاومة المصرية بل علي العكس
إستنفرت شعورا كامنا لسنوات وسنوات فجره مجيء الحملة وظلت المقاومة مشتعلة طوال ال3 سنوات و التي هي عمر الحملة.
ومما يثير الدهشة أن المصريين الذين ثاروا علي الترك ليأتوا بمحمد علي ثاروا علي حفيده الخديوي توفيق بزعامة احمد عرابي
لأنه كان يفضل عليهم الترك و الجراكسه فيخصهم بالمناصب والوظائف و الرتب و العطايا لكن الثورة التي لم تقم علي اساس
من التنظيم منيت بفشل ذريع إذ أعقبها إحتلال بريطاني لمصر دام 70 عاما احتلال جثم علي صدور المصريين وعمد الي تخلف المجتمع و معاملته بسخرة بغيضه وبسبب
الاحتلال قام الشعب المصري بثورة 1919 بقيادة سعد زغلول. ثورة شعبية استمدت روحها من نضال زعيمين قادا بدايات الثورة ضد المحتل البريطاني واثاروا شعور المصريين
في التطلع نحو الحرية فقد كان مصطفي كامل و محمد فريد بمثابة الشعلة التي أنارت الطريق لثورة 1919 إحتجاجا علي المعاملة
القاسية التي عاني منها المصريين من قبل الاحتلال البريطاني وكان أبرز نتائجها.. إلغاء الأحكام العرفية والتي كان الإنجليز يحكمون
من خلالها و الوعد بحصول مصر علي استقلالها بعد 3 سنوات مقابل إبقاء قوات بريطانية في مصر.
وفي عام 1952 كانت الثورة البيضاء و التي نجحت في تغيير وجه التاريخ المصري تماما والتي نقلت مصر من عهد الملكية إلى الجمهورية
ثورة أيدها الشعب وتفاعل معها بكل قوة وصدر عن رجالها قرارات غيرت وجه الأحداث في البلاد ولكنها فشلت في بناء حياة نيابية سليمة .
وفي حقبة حكم السادات شهد عام 1971 تصحيحا ذاتيا أو بمثابة ثورة داخل أروقة الحكم أقصي بموجبها السادات ما سمي بمراكز القوي فانطلق الشعب لتأييده قبل أن يثور الشعب نفسه
في يناير 1977 علي قرارات رفع الأسعار فتراجع عن قراراته نزولا علي رغبة الشعب
وشهدت بدايات القرن الواحد والعشرين ثورة يناير 2011 ثار فيها الشعب علي نظام حقق بعض الإنجازات الداخلية المحدودة طيلة 30 عام من الحكم مقابل الفساد و الرشوة و ا
لمحسوبية و القهر وتدني الخدمات التعليمية و الصحية والنقل فضلا عن انتشار العشوائيات والاستخدام المفرط للقوة من قبل رجال الشرطة ضد فئات الشعب المصري محتمين باستمرار العمل بقانون الطوارئ طيلة ال30 عاما!!
و لا يزال قوس كفاح الشعب المصري مفتوحاً لإزالة الآثار السلبية لفترة حكم (مبارك) و القضاء علي كل أشكال الفساد.