ظمآن و الكأس في يديه
مدحه أمير الشعراء بقوله..
من أي عهد في القري تتدفق؟
وبأي كف في المدائن تغدق؟
و من السماء نزلت أم فجرت
من علياء الجنان جدولا تترقرق؟!
تحسبه كالظمآن والكأس في يديه فتعددت فيه حروف الوصف وكلمات العشق وعبارات التقديس فالقدماء إعتقدوا أن فيضانه
ماهو إلا دموع حزن سكبتها إيزيس حزناً علي وفاة زوجها أوزوريس وآمن الطيبون أنه ينبع من الجنة ويهبط إلي الارض
لترتوي منه الأحياء و حتي عهد غير بعيد تخيل البعض أنه ثلوجا ذابت علي قمم الجبال ومنهم من قال بأنه ينبع من سلسلة
مرتفعات في ادغال أفريقيا حتي أعلن المستكشف البريطاني (جون هاننج سبيك) أن بحيرة فيكتوريا هي أمه التي ولد
من رحمها. وإن كان البعض يؤكد أن الرحالة العربي الإدريسي هو الذي سبقه الي هذا الاكتشاف عام 1160 م.
ولكن البدايات الحقيقية تعود الي أبعد من 6 ملايين سنة حيث بدأ يحفر مجراه في آواخر عصر الميسونين مروراً بسلسلة طويلة
من المتغيرات استغرقت عمره حتي بدا لنا بتلك الملامح الأفريقية السمراء مستقراً علي صفاته الحالية منذ العشرة آلاف سنه
الأخيرة أثناء الحقبة الرطبة التي سادت أفريقيا بعد انحسار الحقبة الجليدية حاملا معه الخير و النماء لكل أرض يصل
إليها ويفيض عليها بالخصب والحياة.
ذاك هو النهر الأسطوري الذي رفعه المصريون القدماء الي مصاف الآلهة و الأرباب فأطلقوا عليه إسم (حابي)إله الخير
و السعادة. و الذي لولاه ما قال المؤرخ هيرودوت قولته المشهورة:مصر هبة النيل إذ انه يخترقها من الجنوب الي
الشمال ليحول الوادي و الدلتا الي أضخم واحة طبيعية علي وجه البسيطة.
أطلق عليه أهل النوبة إسم (النيل) وهي ترجمة أصيلة لعبارة (مكان الشرب).
يخوض النهر في رحلته الاسطورية أكثر من أربعة آلاف ميل وكأنه أطول ماراثون لنهر علي الارض. حيث ينطلق من هضبة
البحيرات العظمي بوسط أفريقيا(فيكتوريا.. ألبرت.. أد.. آرت) حتي يلتقي بتوأمه الهادر القادم من بحيرة تانا حيث المرتفعات
الحبشية و الذي يسمي بالنجاشي (النيل الأزرق) ليلتحما في مجري واحد عند مدينة الخرطوم ومنها ينطلق بقوة الي أرض مصر
و منها يسير في وداعه ورقه حتي يتعانق ما تبقي منه بأمواج البحر المالح في مشهد درامي خلاب وكأن حبيبا إلتقي بحبيبه بعد طول غياب!
وما الأميال التي يقطعها سوي ثقافات متعددة وحضارات ضربت في أعماق التاريخ وما أمواجه إلا شاهدة علي مطامع القوي
الاستعمارية في الماضي القريب و تحكي عن قصص من النضال لشعوب إتسمت قلوبها بالطيبة و التضحية من أجل التحرر حتي نالت الاستقلال.
وفي غمرة السجال السياسي بيننا وبين إثيوبيا حول النيل وحصص المياه وبناء السدود نحاول أن نستعيد حياه هذا النهر العظيم
من خلال صفحات التاريخ و الأدب والذي يبدو أكثر نبلا من السياسة في تعاطفه مع النيل وأكثر وعيا بقدسيته وأهميته.
. فهو الذي إقترن إسمه بالاساطير و التقديس تارة و بالخصوبة و الجدب تارة أخري و إقترن اسمه كذلك بالظلمة و النور
و الحياة و الموت علي ضفافه إذا تغني به الشعراء لأنه حالة رومانسية ومكونا حضاريا ورحمة بديلة من عند الله و سؤلا للحرية
و الخلاص و تتشكل ملامحه من خلال الأدب العربي بصفته ملجأ لكل المطاردين من جحيم العالم و قسوته و الحالمين
بعالم أكثر إنسانية و جمالا. نعم هو النهر الذي يسقي ولا يشرب.. كالظمآن و الكأس في يده!!