المقال رقم 3
بقلم/د.عدالله السعدنى
“باحث بكلية الدراسات الشرقية -جامعة سانت بطرسبورج الحكومية – روسيا الاتحادية”
على غير عادته تماما، لزم الإمام الصدر الصمت تماما خلال هذه الايام، لم يتصل بأسرته فى بيروت، او يكتب اليها،
على الرغم من انه كان قد اتفق معها على ان تسافر الى باريس لانتظاره بعد ان يفرغ من زيارة ليبيا… فى اليوم الثالث
، اتصل الصحفي عباس بدر الدين، المرافق للامام، بنزار فرحات الملحق بالسفارة اللبنانية بطرابلس الذى أبدى دهشته
تماما لوجود الإمام حيث لم يبلغه احد مسبقا بهذه الزيارة.. طلب عباس بدر الدين من الملحق المساعدة للحصول
على تأشيرة من السفارة الفرنسية لكى يرافق الإمام فى زيارته لباريس.. وعد الملحق بالمساعدة.. ودعا الوفد كله الى العشاء
بالسفارة يوم ٣٠ اغسطس ١٩٧٨.
خلال العشاء الذى كان اشبه بحفل استقبال للامام الصدر
حضرة العديد من الصحفيين، تحدث الإمام لأول مرة.. خرج عن صمته وكشف عن سر.. قال:-[ان القذافى ألغى موعده
معه مرتين وأنه حدد له موعدا نهائيا جديدا هو الواحدة والنصف من بعد ظهر ٣١ اغسطس.. اى اليوم التالى
مباشرة] وقال الإمام:[ان هذه المقابلة يمكن ان تكون عاصفة]. أخذ الملحق اللبنانى نزار فرحات جواز سفر الصحفي
عباس بدر الدين ليستخرج له التأشيرة التى طلبها الى باريس، ووعد بان يراجع أيضا مع السفارة الفرنسية تأشيرتى
الإمام ومستشاره الشيخ شحاته.. والتقى الإمام الصدر خلال الحفل بمهندس لبنانى مان سيطير الى باريس فى اليوم التالى
واسمه على نزار، وسلحه الإمام رسالة الى أسرته التى كان يتوقع وصولها الى العاصمة الفرنسية..
عباءة الإمام.
فى الواحدة من بعد ظهر الاربعاء ٣١ اغسطس.. اى قبل نص ساعة من الموعد المحدد للقاء الإمام بالقذافي، شوهد الإمام
ومرافقاه يغادرون الفندق بصحبة لبنانى يدعى اسعد المقدم.. وبعد نصف ساعة حضر الملحق اللبنانى الى الفندق
ومعه جواز سفر الصحفي “عباس بدر الدين” وعندما قيل له ان الوفد غادر الفندق، ترك الجواز لدى موظف الاستقبال.
. بينما كان مندوب ليبى قد استخرج تأشيرتين للأمام ومستشاره لإيطاليا من السفارة الإيطالية..!! فى المساء..
غادر ثلاثة رجال ليبيا.. احدهم يرتدى عباءة الإمام، وكان موعد إقلاع طائرة الخطوط الجوية الإيطالية [اليتاليا]
فى رحلتها رقم ٨٨١ من طرابلس الى روما هو الثامن مساء.. تاخر إقلاع الطائرة ساعة كاملة حتى وصل الركاب
الثلاثة بصحبتهم عضو ليبى فى اللجنة الشعبية.. كانت تذاكرهم على الطائرة فى الدرجة السياحية.. لكن المندوب
الليبى صعد الى الطائرة، وطلب من ثلاثة ركاب إيطاليين فى الدرجة الاولى
ان يتركوا مقاعدهم وينتقلوا الى الدرجة السياحية واجلس مكانهم ضيوفه الثلاثة..
هبطت الطائرة الساعة التاسعة و ١٢ دقيقة فى مطار فيوميتشينو بروما.. بعد نصف ساعة تقدم الصحفي عباس بدر الدين
الى مكتب الشرطة المسئول عن إصدار تصاريح الإقامة وطلب تصريحا بالإقامة لمدة ٤٨ ساعة فى فندق ساتلايت..
وفى اول سبتمبر غادر روما الى مالطة.
أسئلة غامضة.
فى صباح نفس اليوم اول -سبتمبر- تقدم الى موظف الاستقبال بفندق هوليداى ان
فى روما شخص يرتدى بدلة عادية، يرافقه رجل دين مسلم، وطلبا غرفتين فى الفندق. شك الموظف واسمه بيتروكولانجلو
فى منظر الرجلين، فطلب ان يدفعا اسبوعا مقدما.. لم يرفضا.. وتولى من يرتدى البدلة ملئ استمارات البيانات
بالفندق باسم محمد شحاته وموسى الصدر، ودفع ٤٠٠ دولار، واعطاه موظف الاستقبال مفتاحى الغرفتين ٧٠١ ، ٧٠٢ ،
ولاحظ ان هذا الشخص يعامل رفيقه رجل الدين باحترام وتوقير شديدين. صعد الاثنان الى غرفتيهما، ووضع
عامل الفندق كل الحقائب فى حجرة الشيخ كنّا طلب منه، وبعد ١٠ دقائق، غادر الاثنان الفندق مرتدين الملابس
الإفرنجية. ولم يراهما احد بعد ذلك ابدا!!! هل كان الرجلان هما فعلا الإمام الصدر ومستشاره شحاته، لماذا
توجها الى روما بدلا من باريس ام كانا شبيهين لهما، ولم يغادر الإمام ليبيا.. وما الذى جرى فى لقاء الإمام والقذافي
فى ظهر ذلك اليوم، بل هل تم اللقاء اصلا ام لا؟.. كلها اسئلة احاط بها الغموض مثلما احاط باختفاء الإمام الشعيى الذى لم يظهر ابدا حتى اليوم.
اتصالات مع ليبيا.
المهم.. لم يلاحظ احد فى لبنان غياب الإمام الا يوم ٣ سبتمبر..
فقد كان مقررا ان يعود من باريس الى بيروت لحضور الاحتفال بعيد الفطر ، لكنه لم يعد.. توجه قادة الشيعة يوم ٦ سبتمبر
الى السفارة الليبية فى بيروت للاتصال بطرابلس فلم يتمكنوا لتعذر الاتصال. طلبوا من سليم الحص رئيس الوزراء
التدخل للاستفسار عن مصير الإمام، فاتصل الحص يوم ١٠ سبتمبر رسميا بالملحق الليبى ابن قورة فى بيروت.
. وفى اليوم التالى جاءه الرد: ان الإمام ومستشاره غادرا طرابلس الى روما يوم ٣١ اغسطس. وبدأت حرب إعلامية
بين منظمة التحرير والقذافي حول اختفاء الإمام الذى كان حليفا لياسر عرفات. ففى ١١ سبتمبر ١٩٧٨، نشرت جريدة
“فلسطين الثورة” التى تصدرها المنظمة رسالة موجهة الى القذافى تقول له فيها: [هل ننشر يا سيادة العقيد التقرير
الذى سلمه لك “ياسر عرفات” وفيه ١٤ دليلا على ان “الإمام الصدر” لم يغادر بلادك، وأنك احتجزته فيها؟!!
لم يرد”القذافى
” على هذا الاتهام الا فى ٨ يناير ١٩٨٠، عندما اتهمت وكالة الأنباء الليبية منظمة التحرير وزعيمها ياسر عرفات باغتيال الصدر ورفاقه!!.
رواية الملك فهد.
ساد القلق بيروت. حاول الرئيس اللبنانى الأسبق “شارل حلو ” الاتصال بالقذافي فقيل له ان رقم تليفون
العقيد تغير. طار سليم الحص رئيس الوزراء الى ليبيا والتقى مع عبدالسلام جلود فى طرابلس فلم يقل له جلود سوى
ان الإمام غادر ليبيا ولم يكن سعيدا، ولذلك لم يبلغ السلطات الليبية بخطط سفره.
طار وفد شيعى لبنانى الى دمشق يوم ٢١ سبتمبر ١٩٧٨ لمقابلة القذافى الذى كان يحضر مؤتمر قمة جبهة الصمود
والتصدي. التقى القذافى بالوفد.. لكنه لم يستطع ان يجيب على الكثير من أسئلتهم، مثلا.. أين كان الإمام بعد ظهر
يوم ٣١ اغسطس؟ لماذا لم يعتذر عن موعده مع القذافى؟ كيف غادر ليبيا ذات نظام الامن الحديدى، دون ان
يلحظ ذلك احد؟! طار وفد شيعى آخر الى الرياض. هناك التقى بعم الأمير فهد [العاهل السعودي آنذاك]، قال لهم
-وفق رواية المؤلف- ان القذافى استقبل الإمام الصدر فى موعده المحدد فى ذلك اليوم فعلا، وان اللقاء كان عاصفا،
وان القذافى اصدر اوامره بعده باعتقال الإمام.
سرت اشاعات اخرى بان الصدر تم ترحيله لإيران.. ونفت إيران
ذلك . وقيل ان القذافى منحه ٧ ملايين دولار.. ونفت أسرة الامام ذلك، وقالت
رباب الصدر شقيقة الامام -للمؤلف- ان شقيقها لم يحصل على مليم واحد من أموال القذافى.
من هو المتهم؟!
المهم فى ذلك -كما يقول المؤلف- ان القذافى مان طرفا فى قضية اختفاء الامام الشيعى المسلم، باى شكل.. فمن هو القذافى؟
انه يعتبر نفسه-كما يقول المؤلف- نبى الإسلام الجديد، لقد حارب الاخوان المسلمين فى ليبيا واعتبرهم عملاء للغرب
يقبضون مرتباتهم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.. وحارب حزب التحرير التسلامى واعتقل زعيمه
فى ليبيا حسن احمد الكردي مع ١٦٠ من أنصاره بتهمة تزعم منظمة إسلامية ومحاولة إقامة دولة إسلامية فى ليبيا
وقدمهم لمحاكمة سرية فى فبراير ١٩٧٧. حكمت على الكردى بالسجن ١٥ سنة، رفعها مجلس قيادة الثورة الى السجن مدى الحياة.
. لكن القذافى مالبث ان اعتكف فى الصحراء ليخرج للعالم بعد ذلك بالكتاب الأخضر الذى ضمنه نظريته الثالثة،
وهى تقول ان الدين الاسلامى هو الطريق الثالث بعد فشل الشيوعية والرأسمالية.. وبدأ القذافى يدعو لنفسه،
وشكل مئات اللجان الثورية الإسلامية فى المصانع والمصالح والمدارس والجامعات، وجعلها أساس النظام،
وقدم جماهيريته الاشتراكية الليبية، كنموذج للجمهورية الإسلامية التى يريدها.
ويقول المؤلف، انه رغم ان معظم الحركات الاسلامية السرية والعلنية اعتبرت القذافى خارجا عن تعاليم الإسلام
وسنة الرسول الكريم، ورغم ان للشيعة رجالها وتنظيماتها فى السر والعلن.. فلا احد اقترب من القذافى
او حاول ذلك، سواء فى قضية اختفاء الامام الصدر او فى الإسلام الجديد الذى يبشر به. لتأكيد ذلك، يتساءل المؤلف:
ما هو موقف النظام الثورى الاسلامى فى إيران، وزعيمه الخمينى، من اختفاء تلميذه الصدر؟!
الخمينى .. الدين والسياسة.
لقد وصل الخمينى للسلطة فى إيران عقب اختفاء الصدر، وشمل لجنة للتحقيق فى القضية برئاسة صادق طابا طابى،
وهو ابن عم الصدر، ومستشار الخمينى فى نفس الوقت. وفى فبراير ١٩٧٩، عقب وصول الخمينى للسلطة،
أراد “القذافى” ان يطير الى إيران لتهنئته.. فرفض الخمينى.. وقال:-[سأرحب بالقذافي فقط اذا جاء الامام الصدر
معه على نفس الطائرة]. وهذا اتهام واضح للقذافى بأنه يحتجز الامام الصدر لديه.. او يعرف -على الاقل- مكانه.
ويقول المؤلف: ان القذافى كرر المحاولة فى ابريل ١٩٧٩، لكن بشكل عملى.. فقد أوعز الى معاونيه بان يشتروا له
١٥٠ تذكرة طيران على احدى طائرات شركة إيرفرانس.. وطار ومعه ١٥٠ من مساعديه -دون دعوة- الى طهران، وعندما
دخلت الطائرة المجال الجوى الإيراني، وعرف برج المراقبة بمطار مهراباد بطهران، من قائدها، ان القذافى على الطائرة
، صدرت التعليمات من اعلى مستوى فى إيران بمنع الطائرة من الهبوط.. فعادت بحمولتها الى طرابلس. بعدها
بعث القذافى بعبدالسلام جلود الى طهران فرفض الخمينى مقابلته، فبعث بوزيرين من حكومته، فترك الخمينى
المدينة فور وصولهما.. ويومها قال احد الوزيرين الليبيين [هل كان الرسول الكريم يعامل ضيوفه على هذا النحو؟]
وعندما ابلغ الخمينى بهذه الملاحظة رد قائلا:-[قولوا له .. وهل كان الرسول يعامل ضيوفه كما عاملوا الامام
الصدر؟]. لكن الايام مرت.. وتوارت قضية اختفاء الامام الصدر فى الحسابات الإيرانية أمام حاجة الخمينى
الى السلاح الليبى، والى علاقات القذافى القوية مع الشركات المنتجة له فى كل أنحاء العالم، لمحاربة العراق ..
فلم يعد لقضية اختفاء تلميذه الامام الصدر وجود فى ذهن الخمينى او فى علاقات البلدين الذين اتجها الى التحالف
.. وهكذا اثبت نبى الصحراء الإيرانية ، ونبقى الصحراء الليبية ان الإسلام عندهما مرتبط بالأهداف السياسية.. فإذا تعارض معها.
. تغلبت المصلحة السياسية عليه. [وهو ما حدث مع الإخوان المسلمين فى مصر فى السنوات الماضية .