بقلم عبد الله معروف متابعة عادل شلبي القوة الناعمة الغربية هندسة الوعي العربي وتفكيك المناعة المجتمعية في زمنٍ لم تعد فيه المعارك تُخاض فقط بالدبابات والطائرات، برزت “القوة الناعمة” كأداة رئيسية بيد القوى الكبرى لإعادة تشكيل العالم وفق مصالحها. ولم يكن الوطن العربي بمنأى عن هذا المشروع الخفي، بل شكّل ساحةً مفتوحةً لأعقد عمليات الهندسة النفسية والثقافية التي تنفذها أجهزة استخبارات ومنظمات دولية بأدوات ناعمة لكنها فاعلة ومدمرة.
القوة الناعمة، التي يُنظر إليها غالبًا كوسيلة حضارية لنشر الثقافة والقيم، تتحول في السياق العربي إلى أداة تفكيك وهدم، تُمارس عبر الإعلام، التعليم، الفن، منظمات حقوق الإنسان، التمويل الأجنبي، وحتى الجوائز العالمية مثل نوبل. ما يجعلها خطرة هو أنها لا تُخيف، بل تُغري، ولا تفرض، بل تُقنع، حتى تتحول العقول إلى جبهات مفتوحة لأي اختراق.
ما يجري في غزة اليوم خير مثال على هذه الآلية الناعمة التي تستهدف الوعي أكثر من الأرض. تُشيطن المقاومة الفلسطينية وتُعاد صياغتها إعلاميًا كتهديد بدل أن تُقدم كحركة تحرر. ولغة الخطاب الإعلامي تغيّر المشهد من صراع بين محتل وضحية، إلى “نزاع معقّد” و”دوامة عنف”. وبينما تستمر المجازر على الأرض، يُعاد تشكيل الإدراك العربي تدريجيًا، فيُصبح دعم المقاومة تطرّفًا، والحياد عقلانية.
في المقابل، تُقدَّم مفاهيم “السلام” و”الإنسانية” بمنظور مفرغ من العدالة والتحرر. السلام المطلوب هو سلام الخضوع، والإنسانية لا تشمل من يُقاوم. في هذا المناخ، يُعاد ترويج صورة العدو – الكيان الصهيوني – لا كقوة استعمارية، بل كـ”شريك سلام محتمل”، ويُلمّع هذا الخطاب عبر سينما وفن وإعلام ناعم يخاطب العاطفة أكثر من العقل، ويُعيد إنتاج صورة الإسرائيلي كإنسان متحضر مقابل الفلسطيني الغاضب، الفوضوي، المتشبث بأفكار قديمة.
لكن غزة ليست الساحة الوحيدة، فمعظم الدول العربية خضعت، بدرجات متفاوتة، لاختراق ناعم. بدأت القصة من المناهج الدراسية، مرورًا بالإعلام، إلى الفضاء الرقمي، وحتى الحياة الثقافية اليومية. تم تفكيك المرجعيات الجامعة للشعوب، سواء كانت دينية أو قومية أو وطنية، واستبدالها بهويات فرعية وهشة تُسهل السيطرة. تحت شعار “الحرية” يتم إفراغ المفهوم من جذوره، وتُصبح الحرية تفلتًا، والانتماء عبئًا.
أما الرموز الثقافية والدينية الأصيلة فإما تُقصى أو تُشوَّه، ويُستبدل بها رموز مستأنسة تتبنى خطابًا عالميًا “مقبولًا” لدى القوى الغربية، لكنها مفصولة تمامًا عن قضايا شعوبها، وعلى رأسها قضية فلسطين. ولعلّ أخطر ما في هذا السياق هو إعادة تعريف المفاهيم الأساسية: فـ”العدالة” تُفهم قانونيًا لا تحرريًا، و”المقاومة” تُختزل في الاحتجاج فقط، بينما تُجرد من مشروعها السياسي التحرري.
وتُستخدم الجوائز العالمية، وعلى رأسها نوبل للسلام، كأداة ترويج لمنظومات فكرية تتماهى مع الأجندة الغربية. غالبًا ما تُمنح لشخصيات تتبنى خطابات مهادنة أو محايدة تجاه الاحتلال والاستعمار، في حين تُقصى أصوات حقيقية تدعو للتحرر والكرامة. هكذا، تُستخدم الجائزة كختم شرعية دولي على خطاب هادف إلى تفكيك الإرادة الشعبية المقاومة.
في موازاة ذلك، يُشغل العالم العربي بقضايا هامشية تُضخ عبر الإعلام ومواقع التواصل، لتشتيت الوعي العام وصرف الأنظار عن القضايا المصيرية. في أوج المجازر في غزة، تُبث البرامج الترفيهية، وتُنظَّم مهرجانات موسيقية، وتُقدم الثقافة كوسيلة للهروب، لا المقاومة. هنا لا نتحدث عن مجرد إلهاء، بل عن سياسة متعمدة لتوليد حالة من اللامبالاة الجماعية، كجزء من معركة على الوعي الجمعي.
حتى الترفيه لم يَسلَم من هذه الأجندة؛ فالمسلسلات والأفلام بدأت تُظهِر “الإسرائيلي الطيب”، وتُعرض قصص إنسانية لجنود الاحتلال، بينما تُغيّب صور الشهداء وأصوات المقاومة. يتم بذلك تمرير التطبيع لا كاتفاق سياسي، بل كواقع ثقافي ونفسي، يعتاده الجيل الجديد قبل أن يعي خطورته.
وبذلك، تصبح القوة الناعمة أخطر من أي سلاح تقليدي، لأنها لا تستهدف الأجساد بل تُخترق بها العقول والقلوب. وما لم تتم مواجهة هذا التيار بالوعي والنقد والبناء الثقافي الأصيل، فإن الاحتلال سيُعاد إنتاجه في كل زاوية من زوايا وجداننا، حتى دون أن نشعر.
فالمعركة اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل على الإدراك، على اللغة، على الرموز. وحين يُختطف الوعي، يُصبح الاحتلال مجرد تفصيل… وحين يستعيد الشعب وعيه، لا يحتاج إذنًا ليقاوم.