فى تجربة *محمد على باشا* (1805-1848) لصناعة النهضة فى مصر معالم وإضاءات، خاصة أنها التجربة الأولى التى سار فى إثرها كُل صاحب مشروع إصلاحى من ولاة الأمور.
كان مشروع *محمد على* كبيرًا وشاملًا لكنه كان شخصانيًا، إذ كانت عيناه على *نابليون* *بونابرت* ، وربما حلم أن يُحقق مثله تغييرات واضحة فى خرائط العالم.
*ومع الوقت اتسعت هيمنته، وكبرت طموحاته، فتصور إمكانية اللحاق بأوروبا ومحاكاة فرنسا فى حركة التمدن والتطور العلمى والحضارى.*
لكنه بعد أربعة عقود تحول من مُهيمن مركزى إلى شبح، وشاخت أركان دولته، وانكمش مشروعه، ثم تلاشى.
وكان من المُخجل أن تزور رحالة بريطانية هى صوفيا لين بول القاهرة سنة *1843* فتكتب فى رسائل لبلادها (ترجمت مؤخرا فى كتاب صدر عن دار الرواق للنشر بترجمة خميلة الجندى)عن تخلف الخدمات العامة، وقذارة الشوارع،
وحالة البؤس السائدة فى كل مكان. تقول *صوفيا* لين بول فى إحدى رسائلها «تحمل القاهرة لقب أم الدُنيا وأحوال أخرى رنانة، إلا أن الأحوال فيها تردت كثيراً فالطرق غير مُمهدة وضيقة، وحيثما امتد بصرك ترى تلالًا من القمامة».
وهنا، تبدو *التساؤلات* مهمة بل ضرورية *عما أسقط المشروع العظيم من علِ؟ وما أفشل خطة الحداثة؟ وما حال دون إتمام النهضة المرجوة؟.*
صحيح أن الدول الأوروبية اتفقت ضد محمد على، وصحيح أن الدولة العثمانية جابهت المشروع بقوة وعدائية، وصحيح أيضًا أن كثيرًا من اللاعبين المؤثرين فى المنطقة قاوموا صعود مصر ورجلها فى الشرق الأوسط.
لكن رغم هذا كله ترن كلمات واضحة مفسرة بلا لبس ما جرى من خلال الإشارة لصاحب المشروع *بالاستبداد والفردية والتمادى فى الظُلم الإنسانى إلى أقصى مدى.*
كان *محمد على* فردا واحدا، مُعتدا بما يرى، لا يسمع سوى صوته، مؤمنا أنه الأذكى والأحكم والأرشد. صحيح أنه أنشأ *جيشا* وأقام *صناعات* تابعة ووضع قواعد وُنظم حديثة وشق ترعًا وأنشأ جسورًا وبعث بعثات،
*لكنه فعل كذلك بشكل فردى* *لا مؤسسى* . وتركز كل مشروعه النهضوى على التوسع العسكرى، ولم يعنِ بالإنسان المحلى إلا بقدر ما يضيفه لهذا التوسع.
*ومع تقدمه فى العُمر صار الرجل الداهية أقل تركيزا، وأبطأ تفكيرًا، وأضعف* *بحثًا*
، فتضاءل كُل شىء حتى انهار لأنه لم يسمح لغيره بالمشاركة فى إدارة وتنفيذ مشروع النهضة.
يحكى أحمد عزت عبدالكريم فى كتاب *«التعليم فى عهد محمد على»،* والذى صدر سنة *1938* بعض جوانب ما حدث فى مشروع محمد على التعليمى.
ورغم إهداء الكاتب كتابه *للملك فاروق* ، سليل محمد على باشا، إلا أنه لم يتحرج عن نقد مشروع محمد على فى تجربة التعليم وتحميله أسباب عدم اكتمال التجربة. ذكر مؤلف الكتاب صراحة *أن انفراد محمد على بالرأى، وخوفه الكبير على سلطاته، وإصراره على المركزية الشديدة كانت عاملًا أساسيًا فى أفول الحلم.*
كان التعليم فى مصر قبيل تولى محمد على مقصورًا على التعليم *الدينى* بمستوييه البسيط، أى تعلم *القراءة والكتابة* فى *الكتاتيب* التقليدية بالقرى والنجوع ومختلف الأنحاء، والعالى
والمتمثل فى التعليم *بجامع الأزهر الشريف* ، والذى كان يتم فيه حفظ القرآن الكريم وتعلم الفقه والعلوم الشرعية والبلاغة. وبخلافهما لم يكن هناك تعليم حديث، *ولم تكن علوم الرياضيات والكيمياء والهندسة والطب تحظى بأى اهتمام طوال العهد العثمانى.*
وعندما أقدم محمد على على إنشاء *جيش نظامى مصرى* منفصل عن الدولة العثمانية، وجد وقتها الحاجة لازمة للبحث عن معاونين، لذلك الجيش من *أطباء ومهندسين ومترجمين وكيميائيين،ومحاسبين،* وغيرهم. وهكذا بادر بإنشاء عدد من المدارس النظامية الإبتدائية والمتخصصة فى القاهرة والمدن الكبرى.
*ولما كانت تجربة التعليم لدى محمد على مجرد وسيلة لدعم الجيش النظامى الكبير*
، فإن فرض *اتفاقية لندن* عليه سنة *1840* أشعرته أنه لا حاجة للتعليم مادام توسعه مُقيدًا. بل نجده عارضًا فى إحدى رسائله إلى ابنه الاستمرار فى تعليم النشء تحت ذريعة فتح عيونهم على العالم المتمدن. إنه يقول *صراحة لابنه إن تعليم الرعية قد ينقلهم إلى حال من القوة بما يُمثل مشكلة على سلطة البلاد فى المستقبل*
، ما يعنى أن تعميم التعليم قد يصنع حالة من النضج السياسى غير المطلوبة لدى حاكم يعتبر نفسه *صاحب الرأى *الأول* والأخير فى كل شىء*
. *من هنا أصدر باعث النهضة عام 1841 قرارًا بإغلاق 29 مدرسة ابتدائية من أصل 67 مدرسة.*
وكما تلاشى مشروع الباشا الكبير، تلاشت لاحقًا مشروعات اجتهدت فى استكمال النهضة، لكنها لم تراع الإنسان، ولم تقم على أسس مؤسسية.