لقد لا أجانب الصواب إذا قلت أن الشاعرة التونسية القديرة د-آمال بوحرب رائدة من رواد الشعر العربي الحديث في تجلياته الخلاقة،في زمن بدأت فيه القصيدة الشعرية العربية تعرف نوعا من الركود في غياب الرغبة في تنويع المخزون الثقافي،و توسيع المعارف التي تمد المبدع بالمادة الأساسة لنحت قصيدته،و الذي يساعد ه على ولادة نص شعري متميز،فلا شعر يولد من فراغ ولا إبداع يأتي من متاهة موغلة في الدياجير.. هنا،أتحدث عن الشاعرة التونسية د-آمال بوحرب،هذه الشاعرة التي ارتقت بمستوى الصورة الشعرية إلى مراتب التميز والجمال، ونجحت بالتالي في خلق متعة القراءة والإدهاش في نفس الباحث عنها في النص الشعري،و الذي يدفعه للإبحار في عالم الإبداع من أجل قراءة متذوقة عذبة. هي شاعرة تدرك حق الإدراك مدى أهمية تعالق القصيدة الشعرية المتميزة مع مختلف المعارف الإنسانية،كما أنها رسامة بارعة قادرة على خلط الألوان لخلق لونها الخاص بها والذي تبصمه ببصمتها الخاصة،وهذا ما يميز أغلب قصائد د-آمال بوحرب ( أزعم أني اطلعت على الكثير منها) فلا جمال ولا تميز في القصيدة بدون تجليات إبداعبة ترسمها بمهارة على جدران قصائدها بحنكة الشاعر ة المتمرسة ذات الذوق والذائقة الفنية لتقدمها-كما أشرت- للمتلقي تحفة فنية لا تخطىء العين نورها واشعاعها..هذا المتلقي المفروض فيه التميز المعرفي ليبدع على غرارها في قراءاته،فالقراءة لا تقل أهمية عن الإبداع،إذ هي جزء لا يتجزأ منه،فهي ليست إلا ابداعا على إبداع أو خطابا على خطاب،أو لغة حفر على جسد لغة النص،فيحصل التكامل وتتحقق المتعة ولذة القراءة و هذا من خلال هذا التفاعل بين القاريء المبدع والشاعرة المبدعة.. وأعتقد أن القاريء سيقف على صحة ما أقول عندما يقرأ قصائد هذه الشاعرة التونسية المنبجسة من ضلوع الإبداع،لأنها تبرز بشكل واضح القدرة الإبداعية المذهلة-لآمال-على مداعبة الذائقة الفنية للمتلقي واستدراجه-بلطف-إلى مربع الإبداع. وأتوجه بصفة خاصة في هذه القراءة-العجولة-لطابعها الشعري إلى المتلقي الباحث عن متعة الشعر في أبهى صوره وأرقى تجلياته كما تدل على ذلك رائعتها التالية :
غريبان
ما جمعهما رحِمُ ولا وَحَّدَ بينهما دمٌ أو لَبَنًا رَضعا. جِسمُها ما اعتاد غير لمْسة أُمّها والماء، و العطر إن وُضِعا والأثواب، حوْلها وقفت سدّا وإمّا تعلّت تمنع عنها البصرَ لو وقَعا حتى يحين موسم الحب فإذا كفٌّ غريب وثغر غريب و حِسّ عجيب و القُبَلُ.. وبدر غير القمر قد سطعا… إنه الحُب. تيمَّمْ بِتلال روحها فلا ماء للغسل غير الذي سوف ينهمر واسجد … فذنبك على ذنب أرتكب واتلُ آيات الود.. تلعثَمْ، واشرُد وابحر في دروب الهوى فإن اللوح قد رُفِعا.. وأنتِ،حتّام مهدُك ينفرد بِوِهادِك والسَّهل،؟! و نبضُك في الصّمت ما هجعا … حُضنك اليوم أبوابُه مُشرَعة، وتسبق قولَك بسمة كوردة خدُّها في الندى كَرَعا…
أطبقي بذراعيك على الحبيب افتحي الحدود بينكما، وَحِّدي العشق فالحظر قد رُفِعا.. الحب.. خير ما خُلِق و خير ما صَنَعا مبارك.. غريبان صارا حبيبين يا له من جرم يحلو متى وقَعا.
الكاتبة د/آمال بوحرب
على مستوى التعبير،فإن الكلمات غاية في الرقة والشفافية والوضوح،مستوية أكمل ما يكون الاستواء،مقدودة كأنها حبات عقد منظوم،موقعة توقيعاً رائقاً تتناغم فيها الحروف تناغما يضفي عليها من ألوان الموسيقى الشعرية ما يجعلها محببة لدى القارئ المتذوق،الباحث عن جمال الكلمة وعذوبتها وسحرها وانسجامها مع الإيقاع العام للخطاب الشعري الحديث. إن مسعى الشاعرة إلى اقتفاء تضاريس النص،هو محاولة إيقاف حركة زمنها الشعري عبر محاولة استقراء حلمها،في رؤيا تستبطن كشوفاتها،وتشكل تواصلا مضادا إزاء زمنها المجهض المغمور بالغرابة والتماس المعنى الشمولي عبر وعي اشكالي يمكنها ان تكشف جوهر هذا الزمن بكل ما يحمله من اضطراب وغياب..وغربة واغتراب.. انه زمن خام..قلق..غير مبرر احيانا تتوخى فيه الشاعرة فكرة الجوهري / الشعري المشرع على احتمالات التأويل والمبني على (الهمس والتلمس والحس) وهذا الزمن الذي تحاول قراءته الشاعرة يحيل حتما الى محاولة كشف استبطانات اللغة التي تعتبر الشعر ضرورة كما يقول جان كوكتو في استحضار الحلم والرؤيا والاحتفال.. ختاما أقول : قليلة هي النصوص التي تشد الذات القارئة وتجعلها تنشد الإيغال في كشف أعماقها.أما قصيدة ” غريبان” للشاعرة د-آمال بوحرب فتندرج ضمن هذه النصوص التي تستدرج القارئ وتأسره للبحث عن خصوصياتها الجمالية والدلالية،خاصة وأنها تعكس مرحلة متميزة في تجربة صاحبتها.كما تعكس تحدياً وإصراراً على الإبحار في لجج الشعر باعتباره تأسيساً لكون يتغيّى استشراف رؤية شاملة ممعنة في البوح والتدفق. خلاصة القول : الشاعرة التونسية المتميزة د-آمال بوحرب..غيمة مطر رذاذها تحطُ حيث الأبداع والإشعاع والتألق.. قبعتي..يا سيدتي.