ثلاث مرات بكيت فيهم في حياتي، اثنتان منهم سالت فيهما دموعي، أما الثالثة، فبكت فيها روحي، وإن كبحت الدموع. أما المرتين الأوليين، فكانتا في التاسع من يونيو من عام 1967، وأنا على جبهة الحرب، على الضفة الشرقية لقناة السويس، أرى علم العدو الإسرائيلي وقد رفع على الضفة الغربية للقناة، بعد احتلال سيناء، وأسمع خطاب تنحي الرئيس جمال عبد الناصر. وكانت المرة الثانية التي بكيت فيها بذات الحرقة، يوم أن انتقلت أمي، رحمة الله عليها، إلى جوار ربها، وكأنها أفلتتني من يدها، فضاعت خطواتي، رغم كوني ضابطاً في القوات المسلحة، حينها.
أما المرة الثالثة، فكانت عندما تعرفت على اسم السيد “فرانشيسكو بندرين”، رئيس مركز التراث العالمي، باليونسكو، لأول مرة، من خلال خطابه الرسمي، الموجه لي، بصفتي الرسمية، كمحافظ للأقصر، وكمسئول عن أعمال التطوير بها. ذلك الخطاب الذي كانت قراءته أحد أسوء لحظات حياتي، لما حمله من تهديد، صريح، بشطب آثار الأقصر من قائمة التراث العالمي، إن لم تتوقف أعمال تطوير ساحة معبد الكرنك، على الفور. ذلك المشروع الذي كان واحداً من نحو 82 مشروع آخر، بدأتها ضمن خطة التنمية الشاملة لتطوير الأقصر، في الفترة، التي توليت فيها مسئوليتها، من 2004 وحتى 2011، لتحويل الأقصر إلى متحف عالمي مفتوح.
كان خطاب اليونسكو، آخر المحطات التي وصلها قطار حملة الهجوم، التي تعرضت لها فور بدء مشروعات تطوير الأقصر، وخاصة مشروع تطوير ساحة الكرنك؛ حملة تكاتفت فيها جهود الراغبين في وقف مشروعات التطوير، لمنعي من استكمال المسيرة التي بدأت بالنجاح في نقل سكان القرنة المقيمين فوق المقابر الأثرية، إلى مدينة القرنة الجديدة، خاصة بعد إصراراي على إتمام أعمال تطوير الأقصر، بكل مراحلها، من تخطيط وتنفيذ، بإياد مصرية خالصة. وكان أبرز المعارضين، أعضاء البعثة الفرنسية، لما تضمنه مشروع التطوير من نقل الاستراحة الخاصة بهم لموقع آخر، بعيداً عن ضفاف النيل.
تجاوز عدد الخطابات المعادية لي، ولمشروعات تطوير الأقصر، 50 خطاباً، دارت جميعها حول معنى واحد، متفق عليه، وهو أن الأقصر قد تولى رئاستها، أحد “جنرالات” الجيش، الذي سيتسبب في تشويه المكان الأثري، بانعدام خبرته! ولما لم يكن قبول الظلم والهزائم، من طبائعي، فما كان مني، بعد تلقي الخطاب، إلا أنه رددت عليه، في ذات اليوم، داعياً السيد بندرين، لزيارة الأقصر، على رأس بعثة من متخصصي اليونسكو، ليشاهدوا، على أرض الواقع، أعمال التطوير الجارية في الأقصر، على أن أوافق، بعد الزيارة، على أي قرار يتخذه اليونسكو، بناءً على تقرير لجنته! والحقيقة أن بندرين رد بنفس السرعة، وشكل لجنة لزيارة الأقصر، وبحث الشكاوى المقدمة، تكونت من الدكتور كريستوفر يانج، عالم الآثار البريطاني المتخصص في إدارة المواقع الأثرية، والسيد رون فان أورس، رئيس قسم البرامج المتخصصة بمركز التراث العالمي، والمتخصص في تخطيط المواقع التراثية، وهو إيطالي الجنسية.
فور وصولهم إلى الأقصر، ألتقيتهم بمكتبي، لعرض خطة تطوير الأقصر، فاطلعوا، بأعينهم، من خلال الصور التوثيقية، على موقف ساحة معبد الكرنك، قبل بدء أعمال التطوير، تلك الصور، البشعة، التي رأيتها، على الحقيقة، فور وصولي الأقصر، ورأوا سيطرة العشوائيات على المشهد؛ فها هي عمارات سكنية من ثلاثة طوابق أمام المعبد، وبازارات متناثرة أمامه، وقطعان الماشية تجول في الساحة، التي تحولت إلى موقف لعربات الحنطور، والحافلات. فضلاً عن مبنى، بالطوب اللبني، عند المدخل، مباشرة، يسمى “بيت لوجران”، نسبة إلى الأثري الفرنسي، الذي بناه قبل مائة عام، عندما بدأت البعثات الفرنسية أعمال الترميم، لأول مرة، في معبد الكرنك. وعلى ضفاف النيل، أمام معبد الكرنك، مباشرة، كان مقر البعثة الفرنسية، وعلى الجانب الآخر، أقيم ملعباً لكرة القدم، تابعاً لأحد مراكز الشباب … آه والله ملعب كرة قدم، مقابل لمعابد الكرنك والأقصر، يتحول نشاطه، في المساء، لقاعة أفراح!!
شاهد أعضاء اللجنة كل الصور، وأنا أشرح لهم، بالتفصيل، ركائز مشروع التطوير، التي وضعه الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي، حالياً، والذي كان، حينها، المستشار الهندسي لكافة مشروعات تطوير الأقصر. وبعد ذلك، صحبتهم، في زيارة ميدانية، للكرنك، الذي كنا قد أنجزنا ما يقرب من 25% من خطة تطويره، قبل أن نضطر لتجميد العمل، بسبب تلك الهجمة الشرسة. فلم يكن لدي شك في سلامة خطتي، ولم أتشكك لحظة في موافقة اليونسكو عليها، بعد الاطلاع على الحقيقة.
ولكن ما لم أتوقعه، هو استلام الموافقة، قبل مغادرة اللجنة للأقصر، ولا أن أتسلم تقريراً يفيد بأن خطة تطوير الأقصر، بشكل عام، خطة شاملة ومتكاملة، ذات رؤية مستقبلية، تستحق الدراسة بعناية، والاحتذاء بها كنموذج للتطبيق في مختلف المدن، والمناطق التراثية، حول العالم، لاعتمادها على رصد المشكلات، والنجاح في إيجاد الحلول المناسبة، بشكل علمي، ممنهج، يتفق مع المبادئ الأساسية، التي يتبناها اليونسكو. وبعد عودة اللجة لإيطاليا، تسلمت خطاباً مختلفاً، وإن كان يحمل نفس التوقيع، فرانشيسكو بندرين، بموافقة اليونسكو، رسمياً، على استكمال مشروع تطوير ساحة الكرنك، بل وبرغبته في زيارة الأقصر، لمشاهدة المشروعات في الواقع.
وبعد عامين من تلك الواقعة، حصلت الأقصر على جائزتين دولتين، عن مشروع تطوير ساحة الكرنك، كانت إحداهما من منظمة اليونسكو، والتي تسلمتها، بصفتي محافظاً للأقصر، خلال فعاليات المؤتمر السنوي للمنظمة، الذي انعقد، حينها، في البرازيل. أما عن زيارة بندرين للأقصر، وتفاصيل ما فعله لأجلها، فسأسردها على حضراتكم، في الأسبوع القادم، بإذن الله.