كان الأقرب للتوقع أن يؤدى التعنت الإسرائيلى إلى فشل جولة المفاوضات الأخيرة التى قادتها الوساطة المصرية -القطرية بدعم أمريكى وفرنسى من أجل التوصل لوقف إطلاق النار فى غزة رغم ارتفاع سقف الآمال فى كثير من الأوساط
وذلك فى ضوء عاملين أولهما أن نتنياهو وخلفه اليمين المتعصب الدينى قد رمى بثقله خلف خطة ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية، والأولوية عنده البقاء فى الحكم وتجنب المحاكمة،
وثانيهما تردد الضغوط الامريكية، مصحوبة بتواطؤ، ما بين اعتبارات كثيرة، ما أنتج هذه الصورة المشوهة المتضمنة مواصلة دعم عسكرى واقتصادى بنفس المعدلات اللامحدودة ودعم سياسى أقل وتيرة مع تسرب انتقادات واضحة ضد التشدد الإسرائيلى
ودعمًا فى نفس الوقت للوساطة، ليس فقط تجاوبًا مع ضغوط دولية وداخلية ولكن أيضًا تحسبًا لتداعيات قد تؤدى إليها المسارات القانونية ضد إسرائيل.
ولكن المشهد حافل بالتناقضات والتساؤلات التى لا تجد إجابة بسيطة، وقائمة التساؤلات عديدة، ويتقدمها السؤال المنطقى عن كيف ستستمر معاناة الشعب الفلسطينى بأطفاله وشيوخه
مع استمرار الحصار والقتل، فحتى لو انخفضت وتيرة القتل بالسلاح، فكيف ستسير الأمور فى ظل نقص الطعام والدواء ومياه الشرب النقية، وحتى الإعلام الغربى المنحاز
، بل حتى بعض الكتابات الإسرائيلية بدأت فى صحوة ضمير والتنبيه إلى المجاعة والحصار غير الإنسانى المتواصل.
فما يحدث قد تجاوز كل الحدود، وأبرزت بعض المقارنات أن ما يحدث غير مسبوق كونه من جرائم جيش محترف وليس ميليشيات مسلحة أو جماعات عرقية،
وفى النهاية الصورة المتواترة من غزة أصبحت شديدة القسوة والإيلام، والقصص مروعة وتسجل شهادة على فشل بالغ للإنسانية، ولكل منظومة ومؤسسات المجتمع الدولى القائمة.
ومن الطبيعى أن تثور تساؤلات مشروعة عن معنى الخطة الأمريكية -الغربية لإنشاء ممر مائى لنقل الإغاثات الإنسانية ووجبات للشعب السجين فى غزة، وما معنى أن هذه الإجراءات
ستستغرق شهرين لكى تتمكن من نقل كافة الاحتياجات الضرورية، فما العمل حتى يتحقق هذا وإذا كان العالم يعرف أن الطرق والمنافذ البرية هى الأكفأ والأسرع بهذا الصدد
وأن إسرائيل ستتولى تفتيش كافة الشاحنات فى كل الأحوال فما الذى تعنيه هذه الخطة؟ ومن ناحية أخرى تساءلت بعض الكتابات عن توظيف هذا المعبر لتهجير الفلسطينيين القسرى إلى قبرص
وهو أمر يصعب تصوره ولن تتقبله لا قبرص ولا الدول الأوروبية الأخرى، ومن ناحية ثالثة نجد التساؤلات التى عبر عنها البعض حول ما إذا كانت هناك رابطة ما مع الغاز والبترول فى شواطئ غزة،
أم هو رابعًا ضيق أفق أمريكى موجه ضد مصر ومصيره الفشل، وأخيرًا هل هو موجه لاحتواء الانتقادات الداخلية الأمريكية وبشكل لا يقنع أحدًا، هى كلها تساؤلات مشروعة لها أساسها فى الرصيد الأمريكى الحافل بالإساءات والسلبيات فى كل المحطات
التاريخية العربية ما بعد تدخلها الإيجابى ربما الوحيد فى عام 1956- ولمصالحها المعروفة بهذا الصدد-، ومن يتأمل إرث هذه السياسة حتى فى مسائل كتحرير الكويت يجد أنه من الطبيعى أن تتصاعد الشكوك.
ومع كل ذلك فمهما كانت الأهداف سلبًا أو إيجابًا فضلًا عن أنه استفزازى بلا حدود، فإنه لا يجيب عن السؤال الخاص بالاحتياجات الغذائية والدوائية العاجلة فى غزة والتى لم تعد تحتمل المزيد من التسويف.
تتحدث إسرائيل الآن عن أنها قد قضت على ثلاثة أرباع قدرات حماس وأنه متبقٍّ فقط ربع هذه القدرات وأشار نتنياهو مؤخرًا إلى أن الربع المتبقى سيتم خلال شهر تقريبًا وتنتهى عملية غزة،
وهو أمر لم يتأكد بعد، ولكن وتيرة أعمال المقاومة تبدو متراجعة، وإن كان أيضًا لا يوجد دليل على صحة هذا الاحتمال واستمراريته فى ضوء تناقض المعلومات.
من الأسئلة أيضًا التى ستترتب على سؤال مستقبل حماس: هل سيدار القطاع باحتلال إسرائيلى أمريكى مباشر ومعهم حكومة تكنوقراط متعاونة؟ وهل تحسبت واشنطن وتل أبيب لتداعيات هذا السياسية والاقتصادية الشاملة
من مسؤولية الاحتلال المباشر عن الإعاشة وإعادة الإعمار حتى لو بشكل متدرج؟ ومن سيدفع هذه النفقات لو صح أن حماس فقدت قدرتها على إدارة القطاع؟ وبحسب القانون الدولى ستتولى إسرائيل هذه المسؤولية،
كما أن الشواهد تؤكد تغيرات عميقة فى توجهات الرأى العام الدولى والأمريكى خصوصًا الشباب لصالح الشعب الفلسطينى، ولكن بدون استراتيجية عربية وفلسطينية موحدة ومتكاملة لن نستطيع تخفيف سلبيات مرحلة الفوضى الشاملة المقبلة.