تواصلت بمحافظة قنا، لليوم الثانى على التوالي، جلسات “الملتقى الثقافي الأول للتراث القنائي غير المادي بين الثبات والتغيير”، والذي تنظمه جمعية تنمية المجتمع للمرأة الريفية والحضرية بقنا، بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، ومحافظة قنا، والمجلس القومي للمرأة.
انطلقت جلسات الملتقى- أمس الثلاثاء- بقصر ثقافة قنا، برعاية الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة، والدكتورة نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعي، وبرعاية وبرعاية وحضور اللواء أشرف الداودي محافظ قنا، وأيمن بدوي عبداللطيف رئيس مجلس إدارة جمعية تنمية المجتمع للمرأة الريفية والحضرية بقنا، والدكتور هشام عزمي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والدكتور محمد شبانة مقرر لجنة التراث الثقافي غير المادي “الفنون الشعبية” بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس الملتقى، والدكتور أحمد سعد جريو، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية تنمية المجتمع للمرأة الريفية والحضرية بقنا وأمين عام الملتقى، وأعضاء لجنة التراث الثقافي غير المادي بالمجلس الأعلى للثقافة.
وفي اليوم الثاني للملتقى، شهدت فعاليات الملتقى مناقشة 5 أبحاث جديدة في جلسة أدارها الشاعر مسعود شومان رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، بحضور الدكتور محمد شبانة مقرر لجنة التراث الثقافي غير المادي بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس الملتقى، والدكتور أحمد سعد جريو نائب رئيس مجلس إدارة جمعية تنمية المجتمع للمرأة الريفية والحضرية بقنا وأمين عام الملتقى، والدكتور أحمد حمدى شورة عميد المعهد العالى للخدمة الاجتماعية السابق.
وتضمنت الجلسة مناقشة بحث بعنوان “استدامة التراث وأفق التجديد” للدكتور وائل النجمي، وبحث بعنوان “المأثورات الشعبية المتعلقة بالنخيل بين الجمع الميداني والحفاظ على الحرفة” للدكتورة جاكلين بشرى يواقيم، وبحث بعنوان “الأمثال الشعبية والحرف التقليدية في قنا- الفخار نموذجا – للدكتور حارص عبدالجابر عبداللاه، وبحث آخر بعنوان “الحرف البيئية وإعادة تشكيل الوعي” للكاتب محمد صالح البحر، وبحث بعنوان “الأبعاد الإنسانية للمهن الحرفية- صناعات الفخار نموذجا” للدكتورة سوسن الشريف .
أكد الدكتور وائل النجمي، في عرض بحثه المعنون “استدامة التراث وأفق التجديد .. الشاعر عمرو شمروخ نموذجا”، أن البحث ينطلق هذا البحث من خلفية سيادة مفهوم الاستدامة Sustainability والذي جاء على خلفية قرار اللجنة العالمية للبيئة والتنمية بالأمم المتحدة والتي نبهت لضرورة عدم المساس بقدرة الأجيال المستقبلية لتلبية احتياجاتها الخاصة، ومن بينها الاحتياجات الثقافية، وأصبحت الاستدامة تصنف إلى مادية وغير مادية، وغير المادية متعلقة بالقيم والفنون وكل ما خلفه السلف من إرث مادي ومعنوي، يجدر الحفاظ عليه وحمايته ليمتد عبر الأجيال المتعاقبة. وأحد طرق الحفاظ على التراث ممارسة معطياته وفنونه والإبداع بها، فعندما يقوم شاعر في وقتنا الراهن بتخطي كامل تجارب الحداثة وقصيدة النثر وغيرها من التجارب ويختار استخدام قالب شعر المربعات للتعبير عن نفسه وخلجاته ومكنون ذاته، في تفاعله مع المتغيرات من حوله، فإن هذه تعد إحدى ظواهر الاستدامة التراثية التي تستحق الدراسة، وذلك ما أدرسه عند الشاعر (عمرو) شمروخ في ديوانه الليل وآخره ۲۰۲۰ مستخدما المنهجية البنيوية في تحليل الظاهرة الشعرية في الديوان.
وقال إن البحث توصل إلى مجموعة من النتائج من أهمها أن تجذر التراث في النفس العربية بعامة وفي الجنوب الصعيدي بخاصة من القوة والرسوخ بحيث تصبح قوالبه التعبيرية مظهرا أساسيا من مظاهر التعبير عن الهوية في مواجهة تحديات الواقع، وكذلك كشفت الدراسة عن ضرورة العمل الجاد للتوثيق المرئي والمسموع للجوانب التراثية لكونها تعتمد على الشفاهية أكثر مما تعتمد على التدوين، فضلا عن ضرورة إيجاد آلية فاعلة للتواصل بين الأجيال الحديثة والأجيال الأكبر سنا في فنون المربعات لحدوث عملية النقل الأمين للتراث للأجيال القادمة، محاولة الحفاظ على تراث نقي بنسبة تامة هو أمر يبدو على جانب كبير من الصعوبة العملية في أرض الواقع.
وفي عرضها لبحثها المعنون “المأثورات الشعبية المتعلقة بالنخيل بين الجمع الميداني والحفاظ على الحرفة” أوضحت الدكتورة جاكلين بشرى يواقيم، أن البحث هدف إلى دراسة الحرف اليدوية القائمة على خامات النخيل وفهم العناصر الثقافية التي تشكلت في وعي الجماعة الشعبية والتي كانت سببا في تشكيل عاداتهم ومعتقداتهم وممارساتهم التي ترسخت في وجدانهم بما يتسق مع تاريخهم وثقافتهم الشعبية، حيث تعد الحرف اليدوية انعكاسا للثقافة المصرية عبر العصور الحضارية، كما أنها تشع على الثقافة بعدد من العناصر التي تقع تحت جنس المأثورات الشعبية بداية من نشأتها على ضفتي نهر النيل، حيث يقوم بمزاولتها فرد أو مجموعة أفراد لإنتاج هذه الحرف من الخامات المحلية الطبيعية بالأساليب التقليدية بهدف استخدامها في الاحتياجات اليومية للأفراد أو لغرض الاقتناء الدائم .
وأشارت إلى أن الفنان الشعبي تميز بقدراته التشكيلية على الحذف والإضافة ليخرج لنا منتجا جماليا مبتكرا يعكس فلسفة المرحلة التاريخية التي يعيشها، وهو يحمل في كل جزء من أجزائه وفي كل شكل من أشكاله رموزاً دلالية، حيث تعتمد الحرف اليدوية الموروثة على مجموع الخبرات التي ورثها الحرفيين عن آبائهم وجدودهم والإلمام بتقنيات يدوية وتشكيلات متميزة نابعة من خصائص الخامات البيئة، وهذه التشكيلات معالجة بطريقة يدوية تخضع لمجتمعاتها بما تفرزه من ثقافات تحمل علامات ورموزا هي رواسب الأزمان وكانت علامات فاعلة في أعراف ومعتقدات وممارسات المجتمع ليصبح لهذه الرموز دلالتها المقروءة التي استطاع الحرفي صياغتها، وإيجاد وظيفة جمالية لها لتصبح بمثابة القيم التعبيرية المرتبطة بوظيفة المنتج الأساسية وهي الوظيفة النفعية.
وقالت إن محافظة قنا تعد من أهم محافظات الوجه القبلي من الناحية الأثرية والتاريخية وبها عدد من ملامح الإرث الثقافي الذي ينعكس في التمسك بالكثير من العادات والتقاليد التي ما تزال حية، حيث يهدف البحث إلى تنمية الحرف اليدوية في محافظة قنا، ووضع منهج يخدم الفرد والمجتمع ويكون له مردود عليه، تنمية الحرف للارتقاء بمستوى الحرفي وبمستوى الخامة وجودتها وبمستوى المنتج وترويجه وفتح أسواق له، حيث تتعدد مشكلات الحرف وتتركز في الفقر وارتفاع نسبة الأمية، كما أدى تهميش الحرفيين تنمويا إلى انعدام الفرص لتشغيل الشباب مع عدم توفر قنوات لتسويق المنتجات.
أما البحث الثالث الذي نوقش فى جلسات الملتقى فجاء بعنوان: ” الأمثال الشعبية والحرف التقليدية في قنا – الفخار نموذجا” للدكتور حارص عبدالجابر عبد اللاه عمار، والذي أشار إلى أن قضية الثبات والتغير تعد من القضايا المسلم بها في كافة المجالات العلمية والاجتماعية، كما يعبر الثبات والتغير عن حياة الإنسان وحضارته، كما يعد التراث الشعبي غير المادي من الجوانب الحضارية الإنسانية التي تعبر عن واقع الشعوب، وبذلك يعد هذا التراث بمثابة البصمة الثقافية التي تميز شعب عن غيره من الشعوب. كما تعد الأمثال الشعبية وعاء المعرفة الشعوب يتم نقلها من جيل إلى جيل، وأثناء عملية النقل هذه من جيل إلى آخر أصاب الأمثال الشعبية – كما أصاب غيرها من جوانب التراث الشعبي بوجه عام وغير المادي بوجه خاص – العديد من التغيرات، وبما أن الأمثال الشعبية تعبر عن واقع الإنسان وجوانب حياته المختلفة، فهناك العديد من الأمثال التي تعبر عن الحرف التقليدية بكل أنواعها، وقد نالت الزراعة وصناعة الفخار النصيب الأكبر من تلك الأمثال. كذلك بعد الفخار من الحرف التقليدية التي ظهرت منذ استقرار الإنسان المصري حول وادي النيل في العصر الحجري الحديث الصناعة الأواني، وكذلك كانت تستخدمه الطبقات المتوسطة والفقيرة في عملية التعليم بدلا عن ورق البردي الذي لم يكن في متناول تلك الطبقات، وكان ذلك الفخار يعرف باسم “الأوستراكا” أو الشقف.
وقال إن البحث هدف إلى التعرف على أوجه الثبات والتغير في التراث الشعبي غير المادي في قنا، والتعرف على العلاقة بين الأمثال الشعبية وحرفة الفخار في قنا، والتعرف على أهمية الأمثال الشعبية في الحفاظ على الحرف التقليدية وخاصة الفخار، وتوصل البحث إلى مجموعة من النتائج من أهمها أن التغير سمة من سمات الحياة بوجه عام والحضارة بوجه خاص، كما توصل إلى وجود علاقة بين الأمثال الشعبية وحرفة الفخار في قنا، فضلا عن أهمية الأمثال الشعبية في الحفاظ على الحرف التقليدية وخاصة الفخار.
أما البحث الرابع فجاء بعنوان “الحرف البيئية وإعادة تشكيل الوعي” للكاتب محمد صالح البحر، والذي أكد أنه لا أحد يستطيع أن يذكر أهمية التراث بكل أشكاله وأنواعه، سواء على المستوى الأكاديمي الذي يهتم بالدراسة والبحث أو على مستوى الدولة التي تسعى جاهدة للحفاظ عليه، وصونه من العبث والاندثار، أو على المستوى الشعبي الذي تسعى مفردات التراث وطقوسه في عمق عاداته وكلماته وسلوكياته اليومية، ويشكل مصدر فخر له على طول الحياة. ورغم كل هذه الأهمية والانتشار إلا أن التعامل الفعلي مع التراث يظل محصورا في خانة الفولكلور المتحفي، ويظلل التعامل معه قدر كبير من التعالي باعتباره القديم الذي انتهى عصره، ويجب أن يتوارى تحت أقدام الحضارة الحديثة، والتقدم التكنولوجي الهائل الذي يعج فيه المجتمع الآن.
وأضاف “صالح البحر” أن البحث حاول أن يعيد الاعتبار للتراث باعتباره وجودا حيا في حياة الناس، يقدر على إعادة تشكيلهم من جديد، ويُشكل لهم مخرجا حقيقيا من أزمة الوجود المعاصر – الفردية والاغتراب التي خلقتها الحضارة الغربية الحديثة، وفرضتها عليهم ليصيروا حطب نيرانها المستعرة منذ بدء الثورة الصناعية إلى الآن.
وعرج الباحث على أحد أهم أنواع التراث تأثيرا في حياة الناس إلى الآن، وهي الحرف البيئية، متتبعا أكثر أشكالها انتشارا في محافظة قنا، وهي صناعة الفخار، ومن خلال تحليل مراحل صناعتها يخلص البحث إلى أنه في حال إعادة احياءها من جديد، وتطويرها بما يناسب الواقع الآني لتشكل محورا أساسيا في حياة المجتمع، فإنه يمكن لهذه الحرفة -كنموذج – أن تساهم بشكل كبير في إعادة تشكيل وعي الإنسان المعاصر، وتخليصه من مأزق الحضارة الحديثة التي انتهكته، وذلك من خلال عنصرين أساسيين هما: الاعتماد على الذات، والانتماء أو الارتباط بالأرض.
وعبر تطبيق زووم شاركت الدكتورة سوسن الشريف، في فعاليات الملتقى لعرض بحثها المعنون “الأبعاد الإنسانية للمهن الحرفية- صناعات الفخار نموذجا”، واستشهدت في بداية حديثها بما ذكره المهندس “حسن فتحي” في كتابه عمارة الفقراء، إن حرف التراث يمكن إعادة إحياءها سريعا، والأمر يحتاج إلى رد اعتبارها، وعلينا في البداية التفرقة بين المهنة والحرفة، فالمهنة هي نشاط أو عمل يتمتع فيه الفرد بخبرة في مجال معين، والحرفة هي مرحلة إتقان للمهنة والقيام بها ببراعة وإتقان ودقة، وغالبا ما تعتمد على العمل اليدوي وترتبط بالمعرفة والمهارة. فعندما نتحدث عن صناعات الفخار يكون ذلك باعتبارها مهنة، وعندما تذكر أشخاص بعينهم يعملون فيها فهم الحرفيين من أصحاب الخبرة والمعرفة والمهارة.
وأشارت أن لكل مهنة أبعاد متعددة، تركز على الأبعاد الإنسانية للمهن من حيث تشابهها مع الإنسان في بعض صفاته، وارتباط كل منهما بالآخر، وأثره عليه، فالمهن التي تتطلب مهارة وحرفة في الصنع كائن حي يمكن أن تشيخ لو أدركها النسيان والإهمال فتذبل وتندثر، ولها ذاكرة لو انشغل الشخص بعمله الذي يدر له دخل مادي عن مهنة احترفها وأحبها، لا تسقطه من ذاكرتها، فترد الجميل وتعود إليه بكل أسرارها وتفاصيلها، فالمهن الأصيلة لا تنسى صاحبها أبدا.
وقالت: عندما نتحدث عن “الفخار” نجد أوجه تشابه بينه وبين الإنسان، بداية من أصل تكوين كل منهما وهو “الطين”، لقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (المؤمنون: (۱۲) وقال ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حَمَإٍ مسنون) (الحجر: (٢٦). وقد اجتمع أصحاب مهنة “الفخار” على أنه كائن حي به مسامات تجعله يتنفس، ينقي الهواء القادم من الخارج إلى الداخل، وينقي الهواء بداخله أيضا، لما به من مكونات طبيعية صحية للغاية. وثمة تشابه آخر بينهما، أن الحرارة تكشف صلابة وقوة كل منهما، فالأزمات التي يمر بها الإنسان، تكشف معدنه وطبيعته، فإما ينكسر أو يصمد ويحاول التعافي منها ويبحث عن حلول لها. وهذا يشبه تعرض الفخار للحرارة المرتفعة بشدة، عندها يظهر النوع الجيد من النوع السيء.