صناعة المستقبل
بقلم : محمد عتابي
كثيرا ما نخرج عن مناقشة أحوالنا الجارية، وأسباب مشاكلنا الحالية إلى تساؤلات تأسيسية، تعود بنا إلى جذور الواقع
وكيف قفزت كوريا الجنوبية التى كانت على نفس مستوانا الاقتصادى فى ستينيات القرن الماضى، إلى ما وصلت إليه من متوسط دخل الفرد عام 2022 ليبلغ حوالى 32 ألف دولار سنويا، بينما لم يزد متوسط دخل الفرد فى مصر على 4300 دولار فى نفس العام.
إن هذا التساؤل على بساطته لا يمكن اعتباره من باب ملء الفراغ ولا من وسائل شغل الوقت، لأن إجاباته إن كانت مجردة وغير محملة بالهوى، فإنها ستفسر أهم أسباب الانكسارات فى تاريخ مصر المعاصر، التى سبقتنا فيه كوريا والهند وفيتنام وتركيا وتايوان وسنغافورة و..و..و..،
وتطول السلسلة التى تتباين فيها نظم الحكم، من شمولى إلى ديمقراطى ومن اشتراكى إلى رأسمالى، مما يجعلنا ننظر إلى الأمر من وجهة نظر مغايرة للإجابات الجاهزة، ووضع أيدينا على لب الموضوع،
لنصل دون جهد إلى أن الدول المتقدمة اقتصاديا- باستثناء الدول النفطية- هى دول صناعية فى المقام الأول، وبالتالى علينا النظر للمسألة على هذا الأساس.
إن الحديث الجارى دون تفكير يدور دائما حول أهمية التعليم وجودته، لتطور المجتمعات وتقدمها الاقتصادى، مما ينعكس على مستوى معيشة الفرد ومتوسط دخله السنوى،
بينما فى الحقيقة أن التوجه نحو التصنيع بالكثافة الكافية، يخرج بالتعليم والبحث العلمى من نطاق الأهداف والرغبات، إلى نطاق الضرورة التى يحتمها المجتمع الصناعى الذى يتقرر على أساسه أنواع التعلم وقطاعاته،
كما يوجه البحث العلمى الذى يغذى الصناعة بمتطلباتها من التطوير والتقدم، فى منظومة اقتصادية متكاملة تقوم على هدف النجاح والربح وتحسين المعيشة.
إن تلك الأهداف النبيلة لا يوجد خلاف عليها، ولكن الاختلاف دائما فى المنطلق واتجاه السير، وخاصة فى بلد يعانى اقتصاديا،
وبالتالى بدلا من ضخ الأموال فى منظومة تعليمية عقيمة، وسوف تظل كذلك فى دولة يعد التعليم الجيد فيها رفاهية،
فمن الأولى خلق قاطرة مفيدة ومنتجة تجر خلفها القطاعات الأخرى، من اقتصاد وتعليم وصحة وثقافة وفن، لأن المجتمع الصناعى لا يقتصر على المصنع والملحقات الإدارية التى تقوم بخدمته،
ولكن المجتمع الصناعى يمتد تأثيره إلى كل القطاعات الأخرى بداية من التعلم والبحث العلمى، مرورا بالاقتصاد، وصولا إلى أنماط الحياه وتغير تصرفات الأفراد والتزامهم بالنظم والقوانين، وإدراكهم لقيمة الوقت والمجهود.
إن توجه الدول التى تمتلك العلم إلى تكثيف البحث العلمى غالبا ما يحدث وقت الأحداث الكبار، وهو ما شهد عليه العالم خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية،
من تطوير الطيران وأنظمة الصواريخ والرادارات والأسلحة الأوتوماتيكية، إلى صناعة القنابل الذرية واستخدامها، مما كان له أثره بعد ذلك على حياة المدنيين باستخدام تكنولوجيا الحرب فى الحياة المدنية،
والحقيقة أن المسألة قد لا تختلف فى مصر كثيرا، لأننا واقعيا فى حرب، ويجب علينا ليس فقط خوضها ولكن الانتصار فيها بالضرورة، لتحسين معيشة المواطنين، وتلبية متطلباتهم، وهى العناصر التى لن تتحقق إلا بالاتجاه نحو مجتمع الصناعة.
من الطبيعى أن يبدأ تيار التصنيع المطلوب بنقل التكنولوجيا ثم يتطور إلى استخدام الهندسة العكسية،
ثم تحدث الطفرة الكبرى عندما يصبح لهذه المنظومة وسائلها الخاصة التى تولدت نتيجة البحث العلمى المباشر، الذى يضيف لما سبق من تجارب وابتكارات السابقين،
مع الوضع فى الاعتبار أن لدينا الكوادر القادرة على تحقيق ذلك بالتدريب، ولكن تظل المشكلة قائمة بتكرار الإصرار على تشعب المنطلقات وغموضها، بينما قطاع الصناعة واضح دون تشويش،
وقادر على بعث الحياة فى كل قطاعات الدولة دون استثناء، وليس علينا إلا أن نبدأ بإزالة كل العراقيل، وإضافة كل المحفزات لتصبح مصر دولة صناعية عن حق.