مرت الأيام سريعة، رغم ثقلها، لنقترب من اكتمال الشهر الثاني لحرب غزة، التي بدأت يوم 7 أكتوبر 2023، وشنت فيها إسرائيل عدوان غاشم على قطاع غزة، فدمرت حوالي نصف المبان السكنية به، وما يقرب من 80% من البنية الأساسية، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، سواء محطات الكهرباء أو المياه أو الصرف الصحي أو الطرق، التي لم تكن كافية بالأساس لسد احتياجات سكان القطاع، فضلاً عن تدمير المستشفيات والمدارس، وحرمان سكان غزة من أبسط سبل الرعاية الصحية أو المأوى الآمن، بالمخالفة لكافة القوانين والأعراف الدولية، مخلفة القطاع وراءها غير مؤهل للحياة الآدمية.
ورغم فداحة الخسائر على جانب الشعب الفلسطيني، الأعزل، إلا أنني رأيت توضيح حقيقة السؤال الأبرز عن حجم الخسائر والمكاسب، بتأكيد أن إسرائيل أول الخاسرين، لأن أي حرب، لابد وأن يكون لها هدف أو أهداف محددة، وهو ما أعلنته إسرائيل، مع بداية عمليتها العسكرية، بأن لها ثلاثة أهداف؛ أولها، تدمير حماس، وثانيها تحرير رهائنها، وأخيراً احتلال غزة، وهو ما لم تحقق منه إسرائيل، شيئاً، حتى الآن، اللهم إلا تحرير عدد من الرهائن، وفقاً لاتفاق مع قيادة حماس. أضف إلى ذلك، حالة الاستياء العامة بين الشعب الإسرائيلي من سياسة نتنياهو، وحكومته، وتحميله مسئولية فشل إدارته في توقع هجوم حماس، فضلاً عن الفشل في إدارة الحرب، وانعكاسات كل ذلك على أمن وأمان الإسرائيليون، باعتباره المهمة الأولى التي انتُخب على أساسها.
أما الخسارة الكبرى لإسرائيل، فتتمثل في فقدان الجيش الإسرائيلي لسمعة، حاول ترسيخها على مدار عقود طويلة، بأنه الجيش الذي لا يقهر، فإذا به يواجه مفاجأة هجوم حماس على مستوطناته، وأسرها لجنوده، واحتجازها لرهائن من المدنيين. وهو ما أضاف لقائمة الخسائر الكبرى، خسارة جديدة، تمثلت في فقد الإسرائيليون للثقة في أجهزتهم الاستخباراتية الثلاث؛ المخابرات العامة “الموساد”، والمخابرات الحربية “أمان، وجهاز الأمن الداخلي “الشباك”، والتي أثبتت فشلها، جميعاً، في توقع الأحداث، أو في تقدير قوة حماس، من خلال معلومات دقيقة عن حجم تسليحها، ونوعه، أو عن شبكة الأنفاق التي تستخدمها، فكان سقوطهم مدوياً في عيون الإسرائيليون. وقد دفع هذا الفشل العديد من الإسرائيليون إلى الفرار خارج البلاد، بينما يتابع العالم تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه، حتى إن أبناؤه عادوا إلى منازلهم، بشمال غزة، فور تنفيذ الهدنة، رغم تحذيرات الجانب الإسرائيلي.
واستمر نزيف الخسائر على الجانب الإسرائيلي، بخضوعها لشروط حماس، في قبول الهدنة، وهو ما يعد اعتراف بالمنظمة، من خلال الدخول في مفاوضات مع قياداتها، بعدما كانت إسرائيل تعتبرها منظمة إرهابية. وهو ما ينطبق، كذلك، على أمريكا، التي قبلت بأن تكون جزءاً من المفاوضات، مع مصر وقطر، بين إسرائيل وحماس، وهو ما يعد نصراً كبيراً لحماس، باعتراف، آخر، من أمريكا، التي كانت تعتبرها، هي الأخرى، منظمة إرهابية. ورغم استشهاد نحو 20 ألف من أهالي غزة، إلا أن حماس مازالت تمتلك أوراق التفاوض، وهم الأسرى من الجنود الإسرائيليين، رافعة شعار “الكل مقابل الكل”، أي أن خروجهم مقابل لخروج كافة الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال.
أما أكبر المنتصرين في هذه المرحلة فكانتا مصر وقطر، اللاتي قادتا الوساطة؛ فمصر فرضت شروطها كاملة، يوم أن استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، وأبلغه برفضه الواضح والقاطع لعبور المواطنون الأمريكيون من معبر رفح، إلا بعد مرور شاحنات المساعدات الإنسانية إلى قلب غزة، وهو ما وافقت عليه أمريكا، ودعمته. فضلاً عن تأكيد الرئيس السيسي للتهجير القسري لأبناء غزة إلى مصر، مع التمسك بضرورة حل القضية الفلسطينية في إطار الدولتين، التزاماً بحدود 67. يضاف لذلك وساطة الإدارة المصرية الناجحة في تنفيذ الهدنة، وتبادل الأسرى والرهائن بين الطرفين، عبر معبر رفح المصري، اعتماداً على تاريخها الطويل، وجهدها المستمر، لحل القضية الفلسطينية.
ومرة أخرى، رغم الخسائر البشرية والمادية على الجانب الفلسطيني، إلا أن الحرب الجارية، نبهت أذهان وعيون العالم، أخيراً، إلى حقيقة القضية، وجعلته يفيق على وحشية الكيان الإسرائيلي، رغم محاولاته، في بداية الحرب، لتصوير حماس بجماعة داعش الإرهابية، إلا أن مشاهد الفظائع الإسرائيلية، التي انتشرت وتداولتها وسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، تسببت في تغير الشعور العالمي ضد إسرائيل، وانخفضت شعبية الرئيس الأمريكي، وعلت أصوات أمريكية تنادي بمنع تسليح إسرائيل من أموال دافعي الضرائب، الرافضون للانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، نساءً وأطفالاً وشيوخاً ورجالاً. بل ورأينا، لأول مرة، المظاهرات تنطلق في جميع مدن العالم الغربي، تنديداً بوحشية الجرائم الإسرائيلية، وتأييداً لحق الفلسطينيين في الحرية، ومطالبة قياداتها بالتدخل لوقف إطلاق النار فوراً.
وعلى الصعيد المصري، تجلى وعي الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية، على عكس ما قد ظنه البعض، وهو ما لمسته بنفسي، خلال جولاتي، الأخيرة، في الجامعات المصرية، على مدار الأسابيع الماضية، لإلقاء محاضرات لطلبة الجامعات عن قضايا الأمن القومي المصري، فوجدت جيل على درجة كبيرة من الوعي، والانتماء القومي والعربي، معلنين تضامنهم ودعمهم لأشقائهم الفلسطينيون في محنتهم، ومدركين لأبعاد موقف القيادة المصرية المتوازن، في حرصه على عدم تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها من ناحية، مع الالتزام بحماية السيادة المصرية، ومقدرات أمنها القومي من ناحية أخرى.
وهكذا، تمر الأيام، لتثبت للعالم أن صمود وبأس الشعب الفلسطيني، وتأييد القيادة المصرية الحكيمة، وشعب مصر العظيم، هم ضمان الوصول لحل شامل للقضية الفلسطينية.