الأسرة هي اللَّبنةُ الأولى في بناء أي مجتمع، فإذا كانت هذه اللبنة مفكَّكةً منهارةً، فلا بد أن يكون المجتمع مفكَّكًا منهارًا، وإذا كانت هذه الأُسرة صُلْبةً متماسكة، فلا بد أن يكون المجتمعُ المتكوِّن منها صُلبًا متماسكًا كذلك.
من أهمِّ مراحل تكوين الأسرة في الإسلام مرحلة الاختيار، وهو أهم عنصر في ترسيخ استقرار الأسرة المسلمة، فإذا ما تلاقت الطباع، وتوافقت النفوس، وتقاطعت الثقافات – كان ذلك عامل قوى لمجتمع أمتن روابط بين أُسَره، وأَشَد صلةً وأُلفة بين أفراده.
أخطر شيء في حياة الشاب هو اختيار الزوجة اليوم، وأخطر شيء في حياة الفتاة هو اختيار الزوج، مَن هذا الذي سترضين أن يقترن اسمه باسمك، ويكون أبًا لأولادك؟ وكذلك الشاب من هذه التي يقع عليها الاختيار، حتى تحمل اسمك وتكون أُمًّا لأولادك، وتكون شريكتك في الدنيا والآخرة؟
ولا شك أن لكل مجتمع طريقة مختلفة في طرق بناء الأسرة، تختلف باختلاف الثقافة والعادات والتقاليد والدين، إلا أننا نجد أن الإسلام أولى تكوين وبناء الأسرة أهمية بالغة؛ لأنها أهمُّ مكوِّنات المجتمع وعليها تُبنى الأُمَّة.
لقد وضع الإسلام عدة ضوابط لبناء الأسرة ، وقد كتب العديد من الفقهاء والأئمة وذوي الاختصاص في مجال الأسرة والمجتمع عن ضوابط بناء الأسرة، وعن أهمية الأسرة ووظائفها ودورها ورسالتها الإنسانية. ولعل هذه النقاط الثلاث – التي سنأتي على شرحها – وفقها لكتابات العديد من المختصين، هي أهم الضوابط لبناء الأسرة في الإسلام: الاختيار الصحيح لكل من الزوجين، فالاختيار الصحيح من أهم أسباب نجاح الأسر، وسوء الاختيار يكون سببا لعدم الاستقرار. المعاشرة بالمعروف، قال تعالي: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 19)، قال بعض المفسرين ف تفسير قولِه تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قالوا: ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها. المودة والرحمة، تقوم الأسرة على تحقيق المودة والرحمة لإقامة المجتمع والأفراد المتماسكين ذوي الفضل.
معايير بناء الأسرة في الإسلام يرى المهتمون والمختصون بشؤون الأسرة أن أساس بناء الأسرة في الإسلام قائم على مسألتين أساسيتين هما: المودة: فالمودة تعني المحبة، والمحبة تؤدي إلى إشباع حاجات ومشاعر صاحبها. الرحمة: فالرحمة بمعنى الشفقة والرأفة، وهي تؤدي إلى إشباع حاجات الطرف الآخر، وهذا المعنى يؤدي إلى اكتمال البناء النفسي والاجتماعي للأسرة بشكل متوازن. وقد حدد الإسلام أهم المواصفات التي بناء عليها يتم اختيار الزوجة التي بيَّنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها، ولحَسَبِها، وجَمالِها، ولدينها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ”،
فحدَّد أهم شروط اختيار الزوجة وهو دينها. وتلك المواصفات نفسها: المال والحسب والجمال، كذلك تنطبق على اهتمام المخطوبة للخاطب لقبول خطبته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أكَّدَ أهمية دينه وخُلُقه كما في قوله: “إذا خَطَب إليكم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَه فزَوِّجُوه، إلَّا تفعلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ”. فلماذا يعتني الإسلام بدين المخطوبة؟ ولماذا يؤكد على دين وأخلاق الخاطب؟ السبب أن صاحبة الدين وصاحب الدين، رقابتهما ذاتية، وهي مراقبة الله عز وجل، وبسبب هذه الرقابة يستشعران ضرورة حُسْن العمل، لأن صاحبه محاسبٌ عليه، وأقوى أنواع الرقابة هي الرقابة الذاتية، وهي أقوى وازع للسلوك الإنساني لعمل الخير؛
كما أنها أقوى رادع له عن مسالك الشر. والمقصود بالدين في مواصفات المخطوبة أو الخاطب هو الدين الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّته الصحيحة، وليست تلك المفاهيم الشخصية للأفراد أو تلك العادات الخاطئة التي ينسبها البعض إلى الإسلام. والمقصود بالخُلُق في تلك الوصية النبوية هو كل ما يتخلَّق به الإنسان في تعامُله مع الآخرين طوال حياته في جميع جوانبها، وليس ما يتظاهر به أمام الآخرين. ما هي أهمية بناء الأسرة ؟ الأسرة هي اللبِنة الأساسية في تكوين المجتمع، فمن مجموع الأسرِ يتكون المجتمع، وبالتالِي فإن صلاحها صلاح له، وفسادها إفساد للمجتمع.
وقد اعتنى الشرع الشريف بالأسرة عناية خاصة، لما تؤديه من وظائف أساسية تحافظ من خلالها على وجود النوع البشرى واستمرار الحياة الإنسانية وفق ضوابط وأحكام ومقاصد شرعية تحفظ مراعاتها ديمومة الصلاح والخير والعمران، فهي نواة أصلية لهذه الحياة، وصورة مصغرة من مجتمعاتها التي بدونها تنقرض السلالة البشرية وتنتهى الحياة الإنسانية.
فما هي المظاهر التي جعلت للأسرة في الإسلام كل هذه الأهمية: تلبية الأسرة لحاجتها الفِطرية، وضروراتها البشرية، والتي تكون موافقة لطبيعةِ الحياةِ الإنسانيةِ، مثلَ: إشباع الحاجاتِ الجسميةِ والمطالب النفسية، والروحية والعاطفية. تحقيق معان اجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا مِن خلالِ الأسرة، مثل: حفظ الأنساب، والمحافظة على المجتمعِ سليما من الآفات والأمراض النفسية والجسمية وتحقيق معنى التكافل الاجتماعي.
يغرس الإسلام الفضائل الخُلقية والخلال الحميدة في الفرد والمجتمعِ، لذا أسّس القرآن الكريم الأسرة على أسسٍ ثابتة أهمها: أن أصل الخَلق واحد، وأن الرجل والمرأة من منشأ واحد، قال اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء:1). تقوم الأسرة على العدالة والمساواة لكل فرد من أفرادها بما له من حقوق، وما عليهِ مِن واجباتٍ، قال اللهُ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (البقرة: 228)
وتتنوع تلك الوظائف تنوعًا يشمل جوانب الإنسان، فمن الناحية البيولوجية تعتبر الأسرة الملاذ المباشر لتوفير الرعاية البدنية والصحية والمسكن والغذاء لأفرادها، وتبرز أهمية الأسرة من قيامها بوظيفة ذات أهمية كبرى وهى الوظيفة التربوية، سواء كان ذلك دينيًّا، أو علميًّا، أو جسميًّا، أو خُلُقيًّا، ويكون ذلك من خلال التنشئة على القيم الصحيحة، والأخلاق الرفيعة، والعادات والتقاليد النافعة. منافع بناء الأسرة تكوين الأسرة يعود بالنفع على أفرادها من جهة وعلة أفراد وفئات المجتمع من جهة أخرى.
فهناك منافع لا يدركها الزوجان إلا في يوم القيامة: أولها: امتثال أمر الله الكوني والشرعي بالسعي في طلب الولد من أجل استمرار جنس الإنسان. ثانيها: طلب محبة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير أمته وتابعيه الكثرة التي تحقق المعنى الحقيقي لوجود الإنسان في هذه الدنيا، لا الكثرة العددية.
ثالثها: ابتغاء صلة الولد الصالح بعد الممات بالدعاء والعمل الصالح، ورابعها: التعرض لما أعده الله تعالى لمن مات ولده صغيرًا قبله من الشفاعة.
ورغم ترتب هذه الفوائد على قيام الأسرة بوظائفها، فقد ضبط الإسلام ذلك بضوابط محكمة تضمن إخراج ذرية طيبة تَقَرُّ بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع والوطن، وذلك بمراعاة وجود هذا النسل قويًّا خاليًا من الأمراض والمشاكل الوراثية مع اعتبار مدى استطاعتها على القيام برعاية الأولاد رعاية متكاملة دون إرهاق أو حرج، فضلا عن المحافظة على صحَّة الأمهات من أضرار الولادة المتتالية وكثرة الحمل وتفرغها لتربية أبنائها، وفى ذلك يقول الله تعالى: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)[البقرة: 233].
ميثاق الأسرة في الإسلام للحديث عن ضوابط بناء الأسرة في الإسلام وجب الحديث وثيقة هامة جدا هي “ميثاق الأسرة في الإسلام” الذي يعد أهم وثيقة إسلامية حضارية تؤسس لمجتمعات إنسانية متماسكة ومتراحمة وتدعو أهل الفطرة الإنسانية والحكمة النظر إليها بعين الاعتبار وتدعو علماء المسلمين إلى تفعيلها وتبني قيمها وترسيخها في المجتمع. هذا الميثاق جهد جمعي تضافر على إنجازه مجموعة من العلماء بدعوة من اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، التابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة بالأزهر الشريف – وتحت رعايتها- ثم تتابع على تحقيقه وتمحيصه أعداد من علماء الأمة ومن شتى بلادها وبقاعها زادوا على العشرين عالما.
ميثاق الأسرة في الإسلام وميثاق الأسرة في الإسلام يسد حاجة الأمة في أهم مكونات ذاتها وهى الأسرة ويكشف عن عدالة الإسلام ورحمته ويسره وسماحته واعتداله ووسطيته في أمره كله بما في ذلك نظم الحياة الدنيوية وعلى رأسها نظام الأسرة نواة المجتمع وبذرته ووحدة تكوينه.
وقد قام القائمون على الميثاق باستقاء مواده وبنوده من شريعتنا الغراء الثابتة بصريح الكتاب والسنة، والانتقاء والاختيار من تراثنا الفقهي الضخم بمذاهبه من لدن الصحابة والتابعين ومرورًا بالمذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، وحرصوا في تدوينهم على الابتعاد عن كل ما هو غريب ومرجوح من الآراء والأقوال إذا ضعف مستنده أو ما كان مبنيّا على عرف زمانه ثم تغير إلى عرف مستحدث لم يسبق له حكم.
كما حرص العلماء على أن تكون كل مسألة يقررونها لها دليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، كما حرصوا على مراعاة ظروف المجتمع ومألات الأحوال لهذه المصالح والمفاسد فجمعت بين الشرع والعقل والسمع والرأي، مع الحرص على أخذ بأيسر وأعدل وأوسط الآراء وأكثرها ملائمة لمقتضيات العصر الحديث مع تجنب مواطن الخلاف بقدر الإمكان.
كما وازنوا في صياغته بين ما هو قطعي وما هو ظني وما هو متفق عليه أو مختلف فيه وبين ما هو ثابت وما هو متغير، ومزجوا بين العقائد والأحكام والأخلاق، فسلوك الفرد والجماعة لابد وأن ينضبط بذلك العقد المنظوم بين الإيمان والإسلام والإحسان،
كما اعتدلت صياغة مواد الميثاق بين دور الإنسان كفرد والأسرة كلبنة صغرى، والمجتمع ومؤسساته والدولة ككيان معنوي في وسطية وعدل وحفاظ على الحقوق وبيان للواجبات فلم تغفل دور الفرد وواجبه من أجل المجتمع، كما لم تهمل دور المجتمع وحقه وواجبه في سبيل الفرد. وجاءت مواد الميثاق وفقراته رفيعة المضمون، قوية المنهج، اتسقت فيها أمور الأسرة وشئونها بما يبين ثبات أصولها ورسوخ قواعدها وشموخ مقاصدها في أحكام وآداب ترمي إلى تحصين الأسرة والمجتمع. وجاء ميثاق الأسرة في الإسلام في مائة وأربع وستين مادة وخمسة أبواب