بعد حرب 1948، وضياع فلسطين، ظهر تنظيم الضباط الأحرار، بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر، ليقود ذلك التنظيم “الحركة المباركة”، التي عُرفت، لاحقاً، باسم ثورة 23 يوليو، تلك الثورة التي أُطلق عليها اسم “الثورة البيضاء”، إذ لم تراق فيها نقطة دم واحدة. ونجحت قيادة الثورة، الملك فاروق الأول، على التنازل عن العرش، لولي عهده الأمير أحمد فؤاد، ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952، وتم تشكيل مجلس وصاية على العرش، قبل أن يتم إلغاء الملكية، وإعلان قيام الجمهورية في 18 يونيو 1953.
كانت مجموعة الضباط الأحرار قد اختارت اللواء محمد نجيب ليكون قائداً للحركة، باعتباره الأعلى رتبة بين أعضائها، ولما يتمتع به من سمعة حسنة، داخل الجيش المصري، فكان اختياره واحداً من أهم عوامل نجاح هذه الثورة، التي أذاعت بيانها الأول، بصوت محمد أنور السادات، وأعلنت الثورة عن مبادئها الستة؛ وهي القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، ثم إقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، وسادساً إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
وكما لكل ثورة من إيجابيات وسلبيات، إلا أن إيجابيات ثورة يوليو 1952، طغت على سلبياتها، فمن أهم انجازات هذه الثورة، على الصعيد السياسي، كان نجاحها في استرداد الكرامة، بالاستقلال عن المستعمر الإنجليزي الذي كان يأمر وينهي في البلد، وأعادت السيطرة على مقاليد الحكم، في مصر، لأيدي المصريين، ونجحت في إلغاء الملكية، وإعلان الجمهورية، ثم توقيع اتفاقية الجلاء، وخروج الإنجليز عن تراب الوطن، وما تلا ذلك من إلغاء دستور 1923، وإعلان اللواء محمد نجيب أول رئيس مصري للجمهورية، في 18 يونيو 1953. تلك الجمهورية التي حققت نصراً سياسياً، رغم حداثة عهدها، في عام 1956، ضد أقوى ثلاث دول، في هذا التوقيت، إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وشكلت حافزاً لكل الدول النامية أن تقف في وجه الاستعمار، وذاع صيت عبد الناصر، آنذاك، في العالم الغربي، وتغيرت صورة مصر من دولة مُحتلة من بريطانيا، إلى دولة قوية مؤثرة في العالم نجحت، في نفس العام، في تأميم قناة السويس، وإعادتها لأبنائها ومستحقيها.
كما أضافت الثورة لمساتها على المجال الثقافي بإقامة قصور الثقافة والمراكز الثقافية، وتوسيع قاعدتها في مصر، لتنتشر الحركة الثقافية في ربوع مصر، وخاصة في الريف، الذي كان محروماً من كافة أفرع الثقافة، كما تم إنشاء أكاديمية الفنون، لتكون أعظم صرح ثقافي علمي في الوطن العربي، حتى يومنا هذا. وعلى المستوى الاجتماعي تُعتبر ثورة يوليو بداية العصر الذهبي للطبقات الأقل دخلاً، في المجتمع المصري، بصدور قانون الملكية في 9 سبتمبر 1952، لتقضي بذلك على الإقطاع، وتم تمصير وتأميم التجارة والصناعة، التي كانت، قبلها، حكراً على الأجانب، فذابت، بذلك، الطبقات بين أفراد الشعب. كما حررت الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وأصبحت ملكية الأرض الزراعية لمن يزرعها، وأقامت الدولة السد العالي عام 1961، لتنعم معظم أنحاء مصر بالكهرباء، وتحول نظام ري الأراضي من الزراعة بطريقة الحياض، في أيام الفيضان، فقط، إلى زراعتها طوال العام.
وتبنت مصر، في ذلك الوقت، مبدأ القومية العربية، وقاد عبد الناصر حشد طاقة الأمة العربية التي نادى بها من المحيط للخليج، وساهمت ثورة يوليو في تحقيق أول وحدة عربية بين مصر وسوريا، والتي رغم أنها لم يُكتب لها النجاح، إلا أنها كانت بوابة لتحقيق الحلم العربي في يوم من الأيام. كما أسهمت ثورة يوليو في تدعيم ثورات الاستقلال، في الكثير من البلاد العربية والأفريقية، حيث ساهمت في استقلال الكويت، وساعدت اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل، وساندت الثورة الليبية ضد الاحتلال، ودعمت الثورات في تونس والجزائر والمغرب حتى الاستقلال. وكانت ثورة يوليو أكبر داعم للنضال الفلسطيني، وكان الرئيس جمال عبد الناصر أول من قدم ياسر عرفات كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطيني، ليصبح حقيقة راسخة أمام العالم كله. كما شكلت مصر حركة عدم الانحياز، مع يوغوسلافيا والهند، وتبوأت مكانة دولية كبيرة، في ذلك الوقت، بين القطبين الأعظم الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي. ووقعت مصر صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، وبدأت مسار بناء قواتها المسلحة، بعيداً عن الشروط التي وضعتها بريطانيا لتقييد حجم القوات المسلحة المصرية.
كما دعمت ثورة يوليو 1952، نشاط الأزهر الشريف في الدول الأفريقية والأسيوية، وحققت انتشاراً كبيراً في الدول الأفريقية، بدعمها لكل حركات التحرر والاستقلال، وبترسيخ تواجدها الاقتصادي في تلك الدول، من خلال الشركات المصرية، ومنها شركة النصر للاستيراد والتصدير. وبناءً على متانة العلاقات الاقتصادية مع معظم الدول الأفريقية، حققت مصر انتصاراً، جديداً بإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، التي شكلتها كل من مصر وأثيوبيا والسودان، قبل أن تنضم إليها جميع الدول الأفريقية، لتجمع تحت مظلتها الدول الأفريقية المناضلة ضد الاستعمار، وحتى يومنا هذا، لا تخلو دولة أفريقية من شارع يحمل اسم الرئيس جمال عبد الناصر.
وإن كان لثورة يوليو بعض الأخطاء، فاعتقد أن أولها كان التدخل العسكري في اليمن، الذي كان له تأثيراً سلبياً كبيراً على مصر، سواء عسكرياً، أو اقتصادياً أو اجتماعياً … ورغم ذلك تظل ثورة 23 يوليو ثورة عظيمة، ومحطة فاصلة، يؤرخ لمصر بما قبلها وما بعدها، ولا تزال، في نظر العالم، أحد أهم الثورات الإنسانية في التاريخ المعاصر