هنري كيسنجر، أحد أعظم الساسة الأمريكيين، في التاريخ المعاصر، ولا أبالغ عندما أقر بأنه أحدث تغييرات جوهرية في المفاهيم السياسية، على مستوى العالم، خاصةً إبان الحرب الباردة. ذلك الرجل، الذي اعتلى أهم المناصب السياسية والدبلوماسية، في الإدارة الأمريكية، أثناء حكم الرؤساء ريتشارد نيسكون، وجيرالد فورد، وهو من وصل إلى الولايات المتحدة في عام 1938، كلاجئ يهودي، هارب، مع عائلته، من بطش النازية في ألمانيا، فشغل منصب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي عام 1969، ومنصب وزير الخارجية في عام 73، ذلك العام الذي نال فيه جائزة نوبل للسلام، بعد نجاحه في التفاوض لوقف إطلاق النار في فيتنام.
باسمه، دوّن التاريخ الحديث عدد من النظريات السياسية الهامة، التي تُدرس في العلوم السياسة، في العالم، ومنها نظريات “الواقع السياسي الحالي أساس لحل المشكلة”، و”سياسة الانفراج الدولي”، و”الأرض مقابل السلام”، ونظرية “دبلوماسية الوساطة المكوكية”، القائمة على ممارساته في إنهاء حرب أكتوبر 73، والتي طُبقت في التفاوض على اتفاقيات باريس للسلام لإنهاء التدخل الأمريكي في حرب فيتنام، تلك المفاوضات التي نصبه نجاحه في إدارتها، كبطل قومي في بلاده، إذ أنقذ الولايات المتحدة من الاستمرار في أخرج من مستنقع الحرب في فيتنام، التي تسببت في خسارتها لنحو 60 ألف ضابط وجندي من قواتها المسلحة.
ترجع ذكرى أول اقتراب لي من هنري كيسنجر، لأيام دراستي بكلية كمبرلي الملكية، في إنجلترا، في عام 1975، وتحديداً عند انتهاء الفصل الدراسي الأول، عندما كلفنا أحد أساتذتنا بها، بتوجه كل دارس منا إلى مكتبة الكلية، لاختيار أحد الكتب، وإعداد ملخصاً له، للعرض على باقي الدارسين، والأساتذة، فاخترت، حينها، كتاب هنري كيسنجر، الشهير، “كيف تصنع السياسة الخارجية الأمريكية”، والحقيقة أنني استفدت كثيراً من أسلوبه العلمي الرصين في توضيح كيفية بناء وتخطيط السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ووجدت في الكتاب منهجاً وافياً، يمكن لباقي دول العالم اتباعه، وتوظيف مبادئه لتأسيس سياستها الخارجية، كلٌ وفقاً لمعطياته.
كنت قبلها قد شاركت في حرب أكتوبر 73، وأعلم أن هنري كيسنجر، كان أحد أدوات خطة الخداع المصرية في تلك الحرب المجيدة، حينما طلبت القيادة العامة للقوات المسلحة، من الرئيس السادات، توصيل رسالة إلى إسرائيل، مفاداها أن مصر لن تدخل في حرب لتحرير سيناء، وأن الاتحاد السوفيتي رفض إمدادنا بأسلحة هجومية. وتنفيذاً لخطة الخداع الاستراتيجي تلك، قرر الرئيس السادات طرد الخبراء السوفيت من مصر، ثم أرسل مستشاره للأمن القومي، آنذاك، الفريق محمد حافظ إسماعيل، لمقابلة هنري كيسنجر، في أمريكا، في عام 1972، لإبلاغه برغبة مصر في حل المشكلة سلمياً، باسترداد سيناء، وإعادة فتح قناة السويس، في ظل عدم رغبتها، او بالأحرى، قدرتها على الدخول في حرب مع إسرائيل. وبالفعل حمل الفريق إسماعيل رسالة الرئيس المصري إلى كيسنجر، في الولايات المتحدة، وطالبه بتدخل أمريكا لإنهاء الأزمة بالطرق السياسية والدبلوماسية. وبإبلاغ كيسنجر لإسرائيل بطلب مصر، تحقق الهدف، بخداع العدو الإسرائيلي، الذي لم يتحسب للهجوم، والانتصار، المصري في أكتوبر 1973.
وفي هذه الأيام، ظهر كيسنجر، مجدداً، على المسرح السياسي العالمي، وتحديداً في منتدى دافوس 2022، الذي ينعقد سنوياً، في ذلك المنتجع السويسري الراقي، ويجمع كبار القادة والخبراء، من شتى بقاع الأرض، وفي كلمته التي ألقاها على الحضور، دعا، كيسنجر، أوكرانيا إلى القبول بالعودة إلى الوضع السابق لغزو روسيا، بغية إنهاء الغزو، أي التنازل عن دونباس وشبه جزيرة القرم، وذلك إعمالاً لنظريته بأن “الأرض مقابل السلام”. وفي المقابل، حذر الولايات المتحدة، من الإصرار تركيع روسيا، الأمر الذي يرى فيه زعزعة لاستقرار أوروبا، على المدى المتوسط والبعيد. وكان رد الرئيس الأوكراني على كيسنجر، عنيفاً، في رسالة مصورة، تهكم فيها على السياسي المخضرم، مذكراً إياه بفرار عائلته، من قبل، من النازية في ألمانيا، وبأنه قادم من الزمن السحيق، المواكب لتلك الحقبة، في عام 1938، ومتهماً إياه بأنه يغض بصره عن أفعال روسيا في أوكرانيا، التي يُقتل شعبها، كل يوم، جراء القصف الروسي، ويطالبهم بتسليم أراضيهم، في مقابل ما أسماه “سلام وهمي”.
كان كيسنجر قد صرح بأن المفاوضات يجب أن تبدأ خلال الشهرين المقبلين، قبل أن تجد مؤثرات خارجية، يكون من الصعب التغلب عليها، بما يسمح بتحقيق السلام والاستقرار، على كافة الأصعدة، في ظل انعكاسات تلك الحرب على العالمي بأكمله. تلك “الروشتة” التي يرى فيها عدد كبير من المحللين السياسيين والاستراتيجيين، تطبيقاً عملياً لنظرية هنري كيسنجر القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، خاصة أنه ركز على أن الوضع الجيوسياسي، على مستوى العالم، سوف يتغير، بدرجة كبيرة، بعد انتهاء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، مضيفاً إلى أنه من غير الطبيعي أن تتطابق مصالح الصين وروسيا، في كافة المشكلات المطروحة، دونما تأثير على الوضع العالمي، وهو ما دفعه لتقديم ذلك الرأي أو “النصيحة”، للرئيس الأوكراني.
وبعد ذلك السجال السياسي العنيف، لم تصدر الإدارة الأمريكية أي بيان للتعقيب على رأي كيسنجر، وهو نفس النهج الذي اتبعته الإدارة الروسية … وسنتابع نحن ما ستظهره لنا الأيام القادمة، من مدى قابلية نظريات هنري كيسنجر للتنفيذ في العصر الحالي.