د. وسيم السيسي متابعة عادل شلبى أنا فرح أنطون لبنانى الجنسية، مصرى الهوى، ولدت فى طرابلس بشمال لبنان سنة ١٨٧٤م، وغادرت هذا العالم ١٩٢٢م. ارتحلت إلى مصر ١٨٩٧ وكان عمرى ٢٣ سنة، بدأت فى كتابة رسائل إلى أختى روز، جمعتها بخط يدى، وقعت هذه المذكرات فى يد الدكتور شريف مليكة، الذى اشتراها بثمن غال جدًّا من أحد المحال الخاصة بكل ما هو أثرى أو قديم فى مدينة الإسكندرية.
كنت مهمومًا بتخلف الشرق، وكنت أرى أسبابه: الجهل، الشقاق الدينى، الاتكالية، تخلف المرأة، النظام السياسى الوراثى، إهمال الدنيا طمعًا فى جنات الآخرة، وكنت أرى للخروج مما نحن فيه: العلم، العقل، فصل الدين عن الدولة، الإصلاح الاجتماعى، قبول الآخر «كن كما تحب أن تكون، لا كما أحب لك أن تكون». هذه الرسائل المجمعة نشرها الدكتور شريف مليكة فى كتاب رائع بعنوان: دعوة فرح.
اختلفت مع الشيخ رشيد رضا والشيخ محمد عبده، وكانت بيننا مناظرات على صفحات المنارة. وجريدتى الجامعة العثمانية أولًا ثم الجامعة فقط لما وجدت الخلافة العثمانية تريد تتريك العرب. كان من كتبى: ابن رشد وفلسفته، المدن الثلاث «المال – العلم – الدين»، «الوحش الوحش الوحش»، «أورشليم الجديدة»، كنت مبهورًا بالإسكندرية وأهلها الذين تميزوا بسرعة البديهة والظرف أكثر من أهلينا بطرابلس! رائحة الحرية فيها، والفضل يرجع لمحمد على باشا الذى استقل بمصر عن الخلافة العثمانية.
تأثرت بابن رشد، ماركس، داروين، جول سيمون، أرنست رينان «شيطان الغرب والشرق»، كنت أثير الزوابع والأعاصير من جريدتى «الجامعة» حتى أبدد الهواء الفاسد القابع فوقنا ص٥٣، لقد أساء الغزالى بكتابه: تهافت الفلاسفة، هجومًا على ابن رشد، هذا الكتاب كان سببًا فى تخلف العرب كثيرًا، أصبت بمرض السل، سافرت إلى نيويورك للعلاج، وانتهزت الفرصة لزيارة جبران خليل جبران فى بوسطن، ها هو ينادى: يا رفاقى: ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين! ويل لأمة تحسب المستبد بطلًا، والفاتح المذل رحيمًا! ويل لأمة فيلسوفها مشعوذ، وفنها ترقيع ص١١٨.
ويل لأمة حكماؤها خرس، ورجالها لا يزالون فى أقمطة السرير! ويل لأمة منقسمة على ذاتها، كل قسم يحسب أنه الصواب! هذا هو جبران الذى يقول: اجعل فى قلبك لكل كأس أغنية! إن اختلافاتنا العقائدية تجعلنا لقمة سائغة للغرب! أذكركم بأزهى العصور الإسلامية ألا وهو العصر العباسى الأول، ابن الراوندى، كان ملحدًا، مات فى فراشه، يسجل التاريخ السماحة الدينية فى ذلك العصر، ابن بختيشوع طبيب المنصور المعروف، بن توما المنجم فى عصر الخليفة المهدى والذى نقل إلى السريانية كتاب أميروس، ابن بنان المسيحى طبيب المعتصم، ولما مات جزع عليه جزعًا شديدًا، حتى متى بن يونس أستاذ الفارابى أيام خلافة الراضى، وهذا دليل على ازدهار الأمم بالحرية الموزونة.
أنا أرى أن العقل أداة رائعة للمحسوسات، أى للعلوم، ولكنه أسوأ أداة للغيبيات، فالله لا نعرفه بالعقل ولكن بحاجتنا النفسية إليه، ومن هنا ظللت طول عمرى أطالب بعدم خلط الدين بالسياسة، فالدين مطلق، والسياسة نسبية، والأول ثابت، والثانى متغير، والأول مقدس، والثانى غير مقدس «لعبة قذرة – تشرشل». بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى، توقفت عن الكتابة، أنهكنى المرض، فلم أعد قادرًا حتى على قراءة جورنال، أعلنت فشلى فى المهمة التى من أجلها نذرت نفسى لها: ألا وهى النهضة بالشعوب العربية واللحاق بالغرب، ولكن يبدو أن الشعوب تتغير ببطء شديد ما لم يحكمها مصلح، لا سياسى، فالأول حريص على تقدم شعبه حتى وإن فقد حياته أو منصبه، والثانى حريص على الكرسى أولًا والشعب ثانيًا.
أنظر إلى أيامى الماضية أرى الموت يتربص بى من جميع الجهات، تحققت من نظرية داروين! الأمة الأصلح بمعنى التكيف مع معطيات العصر Adaptation هى التى تبقى، أما الأمم التى تدور حول نفسها تتنابذ فى أمر: من منا اصطفاه الخالق دونًا عن الباقين، ومن منا الأهم والأعلى، وليس من منا هو الأكفأ، فمصيرها الفناء ص٢٨١ كتاب دعوة فرح.
أحذو حذو جبران وأقول لكم: ويل لأمة تقتل الناموس وتترك المستنقعات، ويل لأمة تقف عاجزة أمام القعدات العرفية والقانون فى إجازة، ويل لأمة لا تتعلم من كوارثها ولا تعرف أن الذكاء هو: القدرة على التعلم، الاستفادة من التجارب الماضية، قدرة الدولة على حل مشاكلها.