كتبت هدي العيسوي قال المفكر ورجل الأعمال حسن إسميك، إن الوقائع العالمية اليوم، تثبت إمكانية غلبة ثقافة اللاعنف مقابل انحسار نقيضها، وهذا ما يوجب علينا أن نخوض الطريق الشائك عربيا، نحو جعل ثقافة اللاعنف هي القاعدة، والكفّ عن شرعنة العنف! متسائلا؛ فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ وما الذي نحتاجه للمضي في هذا الطريق؟.
وأوضح حسن إسميك، أن الثقافة تعني في أحد أوجه معانيها إعمالَ العقل وخلقَ الأفكار واكتسابها، ومن ثم توجيه السلوك عبر مجموعة من المبادئ والمفاهيم، منوها بأن ثقافة “الإقصاء” مجموعة أفكار تدفع الشخص لرفض الآخر المختلف عنه في الجنس أو العرق أو العقيدة، بينما ثقافة “احترام القانون” تعني أن يلتزمه الإنسان انطلاقاً من إحساس بالمسؤولية قبل الخوف من العقوبة.
وأشار إسميك، إلى أنه حين تسود ثقافة معينة في مجتمع ما، تصير هذه الأفكار كالعدوى تنتشر بين الناس وعبر الأجيال، وتبعاً لهذا المبدأ، حُكم علينا عربياً بانتشار ثقافة “العنف” على كل المستويات الفردية والجماعية خلال عقود طويلة، حتى بات الانتقال إلى إحلال ثقافة “اللاعنف” طريقاً شائكاً، لكن لابد من خوضه!، مؤكدا أن تغيير هذه الاتجاهات أو القيم ليس عملية سهلة، ولا يمكن بأي حال تحديد إطار زمني للقيام بها أو تلّمس نتائجها، لكن لا يقلل من ضرورة التأسيس لها بشكل تراكمي حين تتوافر الإرادة والعزم.
وشدد إسميك، على أننا الآن أحوج ما نكون إلى إيجاد مخرج حقيقي من حالة الفوضى والعنف والإرهاب التي تكاد تُغرقنا، نجد أن ثقافة اللاعنف لا تزال بعيدة عن أذهان صانعي السياسات أو الأحزاب ووسائل الإعلام وقادة الرأي العام في معظم مجتمعاتنا العربية، وفي وقت تتغلغل فيه مفاهيم العنف ورفض الآخر في كل مفصل من مفاصلها على كل المستويات، بدءاً بالتعليمية والاجتماعية وليس انتهاءً بالاقتصادية والسياسية، ورغم أن ثقافة اللاعنف صارت فلسفة عالمية معترفا بها، تضع الدول خططاً ومنهجيات لتأصيلها، إلا أن تداولها في أوساطنا الثقافية والاجتماعية مازال خجولاً حتى اليوم، والسبب في ذلك هو الخلط الواضح بين قوة اللاعنف وضعف الاستسلام، وهذا أمر متصل حتماً بالتأخر الحضاري (المفاهيمي والعملي) الذي تعانيه مجتمعاتنا.
أضاف أن ثقافة اللاعنف التي تمزج بين الجانبين الإنساني والسياسي نجحت في التأسيس لحركات لاعنفية في مناطق مختلفة من العالم، فقد عرفت كل قارات العالم حركات لا عنفية حققت أهداف الشعوب التي قامت بها، كتلك التي شهدتها النرويج والدنمارك وهولندا في مقاومة الاحتلال النازي، أو التي قامت في التشيك والسلوفاك ضد السيطرة السوفياتية وغيرها الكثير في جميع أرجاء العالم، ووفقاً لبعض الإحصائيات، فقد نجحت الحركات التي تبنت مذهب اللاعنف لتحقيق أهدافها بنسبة تقارب الـ 82% من الحالات.
ولفت إسميك، إلى أن الإنسان يتعلم الحوار والتسامح من البيت والمدرسة، وليس خافيا غياب هذه البيئة أو ضعفها في معظم مجتمعاتنا العربية، التي يعاني فيها الإنسان من القهر والحرمان والاستبداد ويغدو بالطبع عنيفا خصوصا مع من هو أضعف منه (ابنه أو زوجته أو تلميذه)، وتنسحب هذه السلوكيات على الصعد كافة التي يمارس فيها الإنسان نشاطه العادي، فيمارس العنف ويورثه للآخرين، والنتيجة مجتمع مضطرب تتسع فيه دوائر العنف وصولاً إلى المستويات السياسية، فلا يجد الفرد طريقة للتعبير سوى الأساليب العنيفة، وهذه هي بذرة الحروب الأهلية والدولية في المقام الأول: إنسان مأزوم.
وأوضح أن مجتمعاتنا العربية تعاني من حالة “شرعنة العنف”، فنجد أن الثقافة السائدة تميل إلى تمجيد الحرب ووصفها بالأعمال البطولية أو المقاومة، من دون اعتبارٍ لما تقوم به من “تفريخ” أجيال لا تفهم سوى لغة الإقصاء والقتل والتدمير، وفي أحيان كثيرة تُلبس العنف ثوب الدين، لتستميل أكبر عدد ممكن من أتباعه، كذلك سعت الأيديولوجيات الشمولية التي اجتاحت المنطقة منذ منتصف القرن الفائت إلى تحويل كل اختلاف إلى صراع عنفي إلغائي مع “عدو دائم”، وبررت هذه الأيديولوجيات بكل أشكالها التضحية بالبشر بحجة “الغايات النبيلة”، فكانت النتيجة تدويراً لا ينتهي للعنف بكل أشكاله على أرضنا العربية.
وأرجع فشل كثير من ثورات “الربيع العربي” بالدرجة الأولى إلى غياب أرضية فكرية مؤسسة على ثقافة اللاعنف، تخاطب العقل لا الغريزة، وتدير الصراع مع الأخذ بالحسبان الطبيعة الديمغرافية والثقافية للمنطقة العربية، أو تضع أهدافاً واضحة تصب في مصلحة الشعوب، وآليات فعالة لتحقيقها، ولو أن هذه الثورات لم تتخذ الشكل العنيف في أماكن كثيرة، لكانت قد حظيت بقاعدة شعبية أكبر وربما شهدنا لها نتائج مختلفة. فذلك يستلزم وجود أشخاص مفكرين ومؤثرين أو قادة رأي يضعون أساسا فكريا لإنارة هذا الجانب في مجتمعاتنا العربية.
وأكد إسميك، أنه لا يقول أن العنف موجود فقط في ثقافتنا العربية، ولا يطالب بالوصول إلى حالة “مثالية” من اللاعنف، لكن زراعة ثقافة نيل الحقوق بالطرق السلمية تتيح مجالاً أوسع لإيجاد حلّ قبل أن تتصاعد الأزمة أو الصراع مهما كان شكله، فكل طرف يدّعي امتلاك الحق كاملاً غير منقوص، وهو على هذا الأساس يبيح لنفسه اللجوء إلى كل وسيلة تمكنه من إحقاق حقه، بما في ذلك العنف. لكن وجود ثقافة لا عنفية في بنية تفكير وسلوك المجتمعات سيجعلها ترى ما لها وما عليها بالدرجة الأولى، وحين تضطر إلى خوض “حرب” لا عنفية كالاعتصام أو المقاطعة..، يكون ذلك على أساس أقل الخسائر وأكبر المكاسب.
من جهة أخرى، قال إسميك، إن سيادة ثقافة اللاعنف في تفكير المجتمعات، تجعل اللجوء إلى العنف في حال الاضطرار إليه، هو الاستثناء وليس القاعدة، وينتهي بانتهاء الظرف الذي استدعى القيام به (ردّ العدوان مثلاً)، أما أن يصير العنف لغة وحيدة نتفاهم من خلالها على المستوى الفردي والجمعي، فهذه نواة اضطراب دائم لا يدع مجالاً لأي بناء أو تطور أو سلام، وهذه أعتى مشاكل مجتمعاتنا العربية، والتي صنعتها ورسختها أنظمة عنفية، وأوصياء خارجيون يريدون فرض ثقافتهم وما يرونه مناسباً على الآخرين بالقوة.