في حياه الشعوب رجال تضعهم الأقدار لقيادة بلادهم في ظروف حالكة حتى يعبروا بها إلى بر الأمان، هكذا كان المشير طنطاوي الذي ولد عام 1935 في حي عابدين، وتخرج بالكلية الحربية عام 1956، ليخوض خمس حروب، ويكون أول ضابط مصري يخوض هذه الحروب الخمسة؛ حرب 56، وحرب 67، وحرب الاستنزاف، وحرب 73، التي كان فيها بطل معركة المزرعة الصينية أحد أهم معارك حرب أكتوبر 73، ثم حرب الخليج 1991، بصفته رئيس هيئة العمليات التي خططت لدور القوات المصرية في هذه الحرب.
كان أول لقاء لي مع المشير طنطاوي، رحمه الله، وأنا طالب في الكلية الحربية حيث كان يدرس لنا النقيب طنطاوي مادة التكتيك، قبل أن ينتقل الرائد حسين طنطاوي من الكلية الحربية المصرية ومعه مجموعة من الضباط المصريين إلى الجزائر لإنشاء وتطوير الكلية الحربية الجزائرية في شرشال، لتتخرج على يديه مجموعة كبيرة من ضباط الجيش الجزائري.
وبعد حصوله على كلية أركان حرب تولى قيادة الكتيبة 16 مشاه خلال فترة حرب الاستنزاف حتى جاء يوم السادس من أكتوبر 73، ليعبر مع كتيبته قناة السويس، في منطقة الدفرسوار، ويقتحم خط بارليف، ضمن قوات اللواء 16، من الفرقة 16 مشاة. وعند وصول كتيبته، إلى رأس الكوبري، قام العدو الإسرائيلي بهجمات مضادة، نجحت الكتيبة في صدها جميعاً، لتبدأ، بعدها، معركة “المزرعة الصينية”، عندما استنفذ العدو الإسرائيلي جميع محاولاته للقيام بالهجمات والضربات ضد رؤوس الكباري، فبدأ في تنفيذ “خطة الغزالة”، التي أعدها الجنرال شارون، لإحداث اختراق تنفذ منه القوات الإسرائيلية إلى القناة، بما يمكنها من إنشاء كوبري تنفذ منه إلى غرب قناة السويس.
وقع اختيار القيادة الإسرائيلية على موقع “المزرعة الصينية”، ضد موقع الكتيبة 16 مشاه، بقيادة المقدم حسين طنطاوي، في ليلة 16 أكتوبر، فقام العدو الإسرائيلي بالدفع بقوة لواء مظلي، ولواء مدرع، من مجموعة الجنرال ماجن، لمهاجمة دفاعات الكتيبة 16 مشاة، وتم تدمير القوات الإسرائيلية بالكامل، ونجحت معركة المزرعة الصينية في صد هجوم القوات الإسرائيلية، فكانت أهم معارك حرب أكتوبر 73، وفشلت خطة الغزالة التي خطط لها شارون، مما اضطره لتعديلها، بمحاولة العبور من منطقة البحيرات.
تدرج، بعدها، المشير طنطاوي بوظائف قيادية في سلاح المشاة، حتى قاد الجيش الثاني، قبل أن يتولى منصب وزير الدفاع والإنتاج الحربي، والذي استمر فيه حتى اندلاع أحداث ٢٥ يناير 2011، ليجد نفسه على رأس المجلس العسكري، مكلفاً بإدارة شئون البلاد، والتي أعتبرها أهم فترات تاريخه العسكري والسياسي. فأصدر أوامره، منذ اليوم الأول، بعدم إطلاق النيران، مهما حدث، وظل قراره سارياً، حتى تسليم السلطة، بعد انتخابات عام 2012. فقد رأى أن طلقة واحدة، من شأنها إغراق مصر في بحر من الدماء، لتصبح بعدها مثل سوريا والعراق، وهو ما كانت جماعة الإخوان الإرهابية تستهدفه، بمحاولة إحداث الفتنة بين الشعب وقواته المسلحة، من خلال إطلاقهم النيران من أعلى أسطح العمارات، في ميدان التحرير، في الأيام الأولى لأحداث يناير 2011.
وقد تكون شهادتي، في حق المشير طنطاوي، مجروحة، بحكم العلاقة، التي تطورت إلى صداقة، على مدار ما يزيد عن ٢٠ عاماً. ولكنني سأستشهد هنا بوزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ليون بانيتا، الذي تولى أرفع وأدق المناصب في الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيسين بيل كلينتون، وباراك أوباما، حتى عام 2013، بدءاً من رئيس ديوان البيت الأبيض لمدة 8 سنوات، ثم رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA). فمنذ ثلاث أعوام، كان ليون بانيتا في زيارة إلى القاهرة، وخلال العشاء الذي جمعني به، تحدث عن بعض تفاصيل المحادثات الهاتفية بينه، كوزير للدفاع الأمريكي، وبين المشير طنطاوي، بصفته رئيساً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان يدير البلاد، في هذه الفترة الحرجة، وشهد بانيتا، أن فترة حكم المجلس العسكري، كانت السبب الرئيسي في الحفاظ على أمن واستقلال ووحدة مصر، ولولاها لتدهورت الأمور مثلما حدث بسوريا والعراق. وأضاف بانيتا، أنه يكن كل الاحترام والتقدير للمشير طنطاوي، كرجل عظيم، أدار دفة البلاد بحكمة وكياسة، طوال عشرون شهراً، مؤكداً أن التاريخ المصري سيفرد، يوماً، فصولاً كاملة عن تلك الفترة.
كان المشير طنطاوي يعشق كرة القدم منذ طفولته في حي عابدين، وقد ظل يمارس تلك الرياضة، وهو وزيراً للدفاع، فكان يغادر الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، كل يوم أربعاء، إلى الصالة المغطاة، بالاتحاد الرياضي، حيث يكون مجموعة منا في انتظاره، لنلعب مباراة تستمر لأكثر من ثلاث ساعات. ولحبه في الرياضة، وإيماناً منه بدورها، فقد دعم جهاز الرياضة بالقوات المسلحة، وأنشأ المدارس الثانوية الرياضية، خاصة في صعيد مصر، لاكتشاف المواهب الرياضية في السن المبكرة من حياتهم. وفي يوم من الأيام استأذن السيد الرئيس في بناء استاد رياضي، ليكون الأضخم في أفريقيا، وبما يليق باسم مصر، وهو استاد برج العرب حالياً.
تميز المشير طنطاوي، رحمة الله عليه، بالبساطة الشديدة في حياته الشخصية، التي تشبه حياة عموم المصريين؛ فكانت والدته، رحمها الله، بالنسبة له هي الدنيا وما فيها، إذ توفى والده وهو في سن صغيرة، وتولت والدته جميع شئونه، فتعلم منها الكثير والكثير، وشهد لقرينته الفاضلة بما بذلته من جهد لتولي مسئولية الأبناء، خلال سنوات خدمته العسكرية.
وهكذا ودعت مصر ابنها البار، بعد ملحمة كبيرة من العطاء، لكنه سيظل في قلوب المصريين كبطل قدم حياته لها، وجزء أصيل من تاريخ هذا الوطن العظيم.