يقال إن لكل امرئ من اسمه نصيب.. وهذا الرجل نال من اسمه نصيبا كبيرا فهو بحق “سيد” المبتهلين وشيخ المداحين والمنشدين.. إنه الشيخ سيد النقشبندى الذي لا تخطئ صوته أذنٌ واعية.. فهو يُحلق بك في سماوات الخشوع بعيدا بعيدا، ويحفظ عشاقه ابتهالاته عن ظهر قلب.. ومهما كتبتُ عن جمال صوته وروعة أدائه ستظل لغة الكلام على فمي خجلى.. صوته الشجي يعد أحد أهم ملامح شهر رمضان، حيث يصافح آذان الملايين وقلوبهم خلال فترة الإفطار بأحلى الابتهالات التي كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معه مشاعر المسلمين، وتجعلهم يرددون معه بخشوع، حتى لقبوه بالكروان وبالصوت الخاشع. ووصف الدكتور مصطفى محمود صوته في برنامج العلم والإيمان بقوله: (إنه مثل النور الكريم الفريد الذي لم يصل إليه أحد). معنى الاسم مأخوذ من الكلمة الفارسية “نقش بند” ومعناها الرسام أو النقاش، وهو منسوب إلى فرقة من الصوفية يعرفون بالنقشبندية ونسبتهم إلى شيخهم بهاء الدين نقشبند. ولد سيد محمد النقشبندي عام 1920 بقرية دميرة إحدى قرى الدقهلية، ثم انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وهناك حفظ القرآن الكريم وتعلم الإنشاد الديني في حلقات الذكر بين مريدي الطريقة النقشبندية. في عام 1955 استقر في مدينة طنطا وذاعت شهرته في محافظات مصر والدول العربية، وبدأت تنهال عليه الدعوات لزيارة البلدان العربية والاسلامية لإحياء الليالي الدينية فزار سورية عدة مرات بدعوة من الرئيس حافظ الأسد، كما زار أبوظبي والأردن وإيران واليمن وإندونيسيا والمغرب العربي ودول الخليج ومعظم الدول الأفريقية والآسيوية، وأدى فريضة الحج خمس مرات خلال زياراته للسعودية. أجمع خبراء الأصوات على أن صوته من أعذب وأقوى الأصوات التي قدمت الدعاء الديني فصوته عريض يتكون من 8 طبقات، وكان يقول الجواب وجواب الجواب، وصوته يتأرجح ما بين الميزو- سوبرانو والسوبرانو وهي مصطلحات معروفة لدى دارسي الموسيقى والأصوات وتدل على سعة صوته وقوته وقدرته على أداء مختلف الألوان الصوتية. بدأ صوته يطرق آذان مشاهدي الشاشة الفضية عام 1966 عندما كان بمسجد الإمام الحسين والتقى مصادفة بالإذاعي أحمد فراج فسجل معه بعض التسجيلات لبرنامج “في رحاب الله” ثم سجل العديد من الأدعية الدينية لبرنامج “دعاء” الذي كان يذاع يوميا عقب أذان المغرب، كما اشترك في حلقات البرنامج التلفزيوني “في نور الأسماء الحسنى”.. ودخل الإذاعة عام 1967م، وترك ثروة كبيرة من الأناشيد والابتهالات التي لحنها عدد من كبار الملحنين مثل محمود الشريف وسيد مكاوي وبليغ حمدي وأحمد صدقي وحلمي أمين.. إلى جانب بعض التلاوات القرآنية. ولتعاونه مع بليغ حمدي تحديدا قصة مشهورة حيث اشتهر بليغ بتلحين الاغاني العاطفية والالحان الراقصة والشبابية.. وكان ذلك التعاون بإيعاز من الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي طلب -في حفل خطبة ابنته- أن يتعاون النقشبندي مع بليغ، حيث كانا حاضرين وكذلك الاذاعي الكبير وجدي الحكيم فأشار السادات للحكيم وبليغ قائلًا: “افتحوا الإذاعة أنا عايز أسمع النقشبندي مع بليغ”.. وبعد أيام حضر النقشبندي لمبنى الإذاعة برفقة الحكيم، وكان ممتعضا ومعترضا على هذا التعاون بسبب طبيعة ألحان بليغ حمدي، وظل يردد: “على آخر الزمن يا وجدي، يلحن لي بليغ؟!!”، فى إشارة إلى أن الابتهال الملحَن يجعل من الأنشودة الدينية أغنية، فقد كان النقشبندى قد تعود على الابتهال مرتجلا دون أن يكون هناك ملحن، وكان يظن أن اللحن سيفسد حالة الخشوع التى تصاحب الابتهال، وحاول الحكيم تهدئته، لكن دون جدوى، حتى اتفق معه الشيخ سيد أنه سيستمع للحن وإذا لم لم يُعجبه سيرفض الاستمرار.. واتفق مع الشيخ سيد على أن يدخل عليهما بعد نصف ساعة، فإذا وجد النقشبندي خلع عمامته فإن هذا يعني أنه أعجب بألحان بليغ، وإن وجده مازال يرتديها فيعنى ذلك أنها لم تعجبه ويتحجج بأن هناك عطلاً فى الاستوديو لينهي اللقاء ويفكرا بعدها فى كيفية الاعتذار لبليغ.. وبعد نصف ساعة دخل الحكيم عليهما فإذا بالنقشبندي قد خلع العمامة والجبة والقفطان.. وأخذ يصفق قائلا: “بليغ ده عِفريتٌ من الجن”.. وأسفرت هذه الجلسة عن ابتهال من أروع ابتهالات النقشبندي وأكثرها شهرة وهو “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي.. من لي ألوذ به إلاك يا سندي”.. إلى جانب 5 ألحان أخرى من أعظم ما قدم الشيخ سيد لتكون حصيلة هذا اللقاء 6 ابتهالات من بين مجموعة الابتهالات التى قدمها بليغ للنقشبندي، وكان بليغ هو من اختار كلمات هذه الابتهالات بالاتفاق مع الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ولم يتقاضَ بليغ والنقشبندي أجراً عن أنشودة «مولاى» التي أصبحت علامة من علامات الإذاعة المصرية فى رمضان وحتى بعد أن تراجع الإقبال على الإذاعة ظلت باقية محققة المزيد من الشهرة والمعجبين من كل الأعمار. واستمر التعاون بينهما ليخرجا لنا مجموعة من أجمل الابتهالات مثل: أشرق المعصوم، أقول أمتى، أى سلوى وعزاء، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يا رب أنا أمة، يا ليلة فى الدهر، ليلة القدر، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر… توفي الشيخ سيد النقشبندي بشكل مفاجئ في 14 فبراير 1976 وكان عمره (55 عاما)، ولم يكن مريضا، وقبلها بيوم واحد كان يقرأ القرآن في مسجد التليفزيون وأذن لصلاة الجمعة على الهواء، ثم ذهب مسرعا إلى منزل شقيقه من والدته سعد المواردي في العباسية وطلب منه ورقة وقلما بسرعة، وكتب عدة أسطر، وقال له: “لا تقرأها إلا ساعة اللزوم”، ثم عاد إلى بيته في طنطا. وفي اليوم التالي شعر ببعض التعب، فذهب للدكتور محمود جامع في مستشفى المبرة بطنطا، وقال له: “أشعر بألم في صدري”، وفاضت روحه في غرفة الكشف خلال دقائق. وعندما فتح شقيق الشيخ النقشبندي الورقة وجدها وصية كتبها الشيخ سيد يوصي فيها بأن يدفن بجوار والدته، وعدم إقامة مأتم له والاكتفاء بالعزاء والنعي بالجرائد، وأوصى برعاية زوجته وأطفاله. وقد كرمه الرئيس السادات عام 1979م بعد وفاته بمنحه وسام الدولة من الدرجة الأولى، كما كرمه الرئيس السابق محمد حسني مبارك في الاحتفال بليلة القدر عام 1989م بمنحه وسام الجمهورية من الدرجة الأولى. وكرمته محافظة الغربية التي عاش فيها ودفن بها حيث أطلقت اسمه على أكبر شوارع طنطا والممتد من ميدان المحطة حتى ميدان الساعة.