كتب : جمال ربيعي
متابعة : ممدوح السنبسي
تعالت الصرخات وتتابعت الآهات، وسالت الدماء، ومات كثيرون من العمال، بينهم – يا سبحان الله – زميل صاحبي الذي طلب تبديل مكانه!!
وجاءت سيارات الإسعاف تنقل الضحايا، وكان صاحبي قد أغمي عليه، وكاد المنقذون ينقلونه ضمن جثث المتوفَّين، لكن أحدهم اكتشف بالمصادفة أن قلبه لا يزال يتشبث بالحياة بخيط من النبضات الواهية!
على وقع صرخاته التي جسدت ما يعانيه من وجع مبرِّح، نُقل صاحبي إلى مستشفى حكومي، وأسفر الفحص عن أن كسورا شديدة قد أصابتعظمتي الساقين… وحان وقت القنبلة التي فجرها الطبيب على الفور فكاد دويُّها يهدم جدران المشفى على رأس صاحبي المسكين:«لا بُدّ من بتر الساقين»… بكى صاحبي كثيراً، مرّة من شدة الآلام، ومرّة على حاله حين تخيل نفسه مُقعداً بقية حياته، رهيناً لكرسيّ متحرك.
كان مدير المصنع في سَفرة عملٍ خارج البلاد، وقاده القدر إلى العودة في اليوم ذاته، ليفاجَأ بالخبر، فيسرع إلى المستشفىفي سباق مع الريح، لمتابعة إجراءات تشييع الموتى، والاطمئنان على عمّاله المصابين. وفور علمه بما أحدق بصاحبي، سارع بالتواصل مع المستشفى الألماني الذي أرسل بدوره سيارةَ إسعاف مجهَّزة لم يكن ليخفى عن صاحبي الفرق بينها وبين سيارة الإسعاف المُقفرة التي نقلته من موقع الحادث إلى المشفى الحكومي… وما هو إلا بعضُ ساعة حتى كان يرقد فوق سريره الطبي الوثير في المستشفى «الألماني». وعاين الطبيب الحالة، ليفجِّر مفاجأة سارّة هذه المرة: «لا حاجة إلى البتر… سنُركِّب مسامير وشرائح»!!
خارج غرفة العمليات، الكل في انتظار الطبيب الذي خرج بعد 4 ساعات ليخبر الجميع بنجاح العملية، ولله الحمد. وكانت الدعوات إلى الله من كل محبيه قد آتت ثمارها، وخرج صاحبي من المستشفى ليظلّ حبيس السرير، بحسب تعليمات الأطباء، سنة كاملة أو تزيد، كانت زوجته الوفية، خلالها، نعم السَّند والمُعين والراعية المخلصة لرفيق دربها.
أنهى المصنع خدمات صاحبي وصرف له معاشاً بسيطاً، وبعد فترة حصل على تعويض مالي مناسب. وكان لزاماً أن يفكر صاحبي في حياته وما آلت إليه، ولم يشأ أن يستكين للبقاء عاطلاً في المنزل، وهو الذي لم يتعود الركون إلى الراحة يوماً، فبحث عن عمل يؤديه ويخرج به مما هو فيه، ويتناسب مع وضعه الحالي، واهتدى بعد تفكير عميق إلى تجارة الخشب التي كان قد ابتعد العهد بينه وبينها!
وراقتهُ الفكرة، فسارع بدفع ريح الأمل الجديد صوب شراع المركب المتوقّف منذ زمن، واستند إلى معرفته القديمة بمجال الأخشاب، وما لبث أن وجد نفسه فيه، وبدأ المشروع بالمبلغ المتاح حينذاك ولم يكن كبيراً… لكن لم تَمضِ بضع سنوات على صاحبي، حتى أصبح صاحب أشهر محلّ أخشاب في مدينته، ثم اتجه إلى تصنيع الأخشاب في ورشة أقامها خصيصاً، وها هو يمتلك الآن واحداً من أشهر محال الموبيليا في محافظته.
***
لا يزال صاحبي يواصل عمله بهمَّته الأولى ودأبه القديم، ولا يزال وجهه يحتفظ بابتسامته الآملة، كما لا يزال عقله يتشبث بحقيقة راسخة، هي أن الله – جلّت قُدرته – لا يريد بنا إلا الخير!!
(الصورة لابن عمي الغالي ربيع سعيد… صاحب القصة…. داخل محله للموبيليا بالإسكندرية)