عشت أجمل أيام حياتي في مدينتي الحبيبة، معشوقتي، بورسعيد، التي اعتاد أهلها، وأنا منهم، الاعتماد على الأسماك، كغذاء رئيسي، حتى أن أشهى أطباقه كانت تحتل موائدنا لمدة خمسة أيام من كل أسبوع، بغض النظر عن القدرات المالية لكل أسرة، فكل منا يجد ما يناسب ميزانيته، من مختلف أنواع الأسماك الطازجة، فور دخوله لسوق السمك الشهير بالمدينة. فقد اشتهرت مدينة بورسعيد بأسماك بحيرة البردويل، من البوري والدنيس وسمك الموسى، حتى أن إسرائيل استغلتها خلال حرب الاستنزاف، لتصدير كامل إنتاجها لأوروبا، لارتفاع جودته، وبالتالي عائده. أما لأصحاب الدخول المحدودة، فتتوفر أسماك البحر المتوسط، بأنواعها، إضافة لمراكب الصيد، التي تبحر من بورسعيد في رحلة صيد، لعدة أيام، وتعود بالخير الوفير، كما يعتمدون على صيادي الشباك، على طول شاطئ بورسعيد، بدءاً من لسان ديليسبس، وحتى بوغاز الجميل، الذين يبدؤون نشاطهم مع شروق الشمس، ويسحبون شباكهم المليئة بالخير، يحاوطهم صيادي أم الخلول. أما الغذاء الشعبي، الأقل تكلفة، فكان سمك الشبار، من بحيرة المنزلة، المتوفر في ثلاث درجات؛ الشبار “المزقلط”، صغير الحجم، ومع ذلك تحتل بطارخه نصف حجمه، ثم الشبار الأزرق، الأكبر حجماً، الصالح للشواء، وأخيراً الشبار الأبيض، للقلي، وهكذا توفر ببورسعيد أشهى أنواع الأسماك، المناسبة لكل الفئات.
وفجأة تغيرت الأحوال، إذ جارت العشوائيات على هذه البحيرات، وتوقف تطهير بوغاز بحيرة البردويل، وبوغاز الجميل لبحيرة المنزلة، والتي كانت مسئولة عن تجديد مياه تلك البحيرات، كل عام، بمياه جديدة من البحر الأبيض المتوسط، فزادت ملوحة هذه البحيرات، وانخفض، بالتالي، إنتاجها من الثروة السمكية، لكن أخطر التعديات كانت في تجاوز، البعض، بإنشاء مزارع سمكية داخل البحيرات، على مساحات كبيرة، وقيام، البعض الآخر، بردم مساحات من بحيرة المنزلة، واستقطاع أجزاء كبيرة منها، لتصبح أوكاراً للخارجين عن القانون، والهاربين من الأحكام القضائية. وأثناء فترات الانفلات الأمني، التي أعقبت يناير 2011، ضُرب عرض الحائط بالعديد من القرارات المنظمة للصيد في البحيرات المصرية، ومنها قرار حظر الصيد، لمدة ثلاثة شهور، من كل عام، في بعضها، والذي كان يهدف لنمو الذريعة الصغيرة من الأسماك، كما تجاوز الكثيرون عن الالتزام بقرار حجم فتحات شباك الصيادين، حتى لا يسمح بصيد الأسماك الصغيرة.
والحقيقة أنني لمست تلك التغيرات السلبية، بنفسي، في آخر مرة توجهت فيها لسوق السمك، في بورسعيد، لشراء كمية تكفي استهلاك أسرتي، بالقاهرة، فوجدت السوق وقد تغيرت ملامحه للأسوأ، ولما سألت عن سمك الشبار، تلقيت نفس الإجابة، وكأن البائعين قد اتفقوا عليها مسبقاً، “انسى … لقد ضاعت بحيرة المنزلة”، فقد أصبحت مستقراً لنفايات المصانع، ومخلفات الصرف الصحي، من كل القرى، وتلوثت مياه المصارف المحملة بمخلفات الري، ولما سألت أين أسماك البردويل، علمت أن إنتاجها انخفض للغاية، وأصبح بالكاد يفي احتياجات المطاعم الشهيرة. وعدت للقاهرة، في ذلك اليوم، وأنا حزين على فقدان تلك الثروات المصرية، الكفيلة بتغطية حاجة جميع فئات المواطنين من البروتين.
لم تكن تلك صدمتي الوحيدة، فقد صدمت مرة أخرى، في الفيوم، في العام الماضي، عندما توجهت لمنطقة البحيرات، لشراء الأسماك، فجاءتني الإجابة بأن البحيرة، الآن، في أسوأ حالاتها، وعز إنتاجها، بعدما صارت مصباً للصرف الصحي، والمخلفات الزراعية، المحملة بالمبيدات، فضلاً عن التعديات عليها، وتقليص حجمها بفعل عمليات الردم، واستقطاع مساحات منها للبناء العشوائي، وإنشاء المزارع السمكية، فأصابها ما أصاب بحيرات بورسعيد، من ارتفاع الملوحة، وانخفاض الإنتاجية. فتحسرت على ذكرياتي في الفيوم، التي أقمت في معسكر بها، أثناء حرب الاستنزاف، للتدريب على استخدام المركبات البرمائية، الجديدة، في بحيرة قارون، فكنا، حينها، نستمتع بأجمل وجبات الأسماك، خاصة سمك موسى، الذي لم أجد له مثيلاً في العالم، حتى يومنا هذا.
وببعض البحث، علمت أن معظم بحيرات مصر، تعاني مما تعاني منه بحيرات المنزلة، والبردويل، وقارون؛ تحتوي مصر على 11 بحيرة، يضم البحر الأبيض المتوسط خمسة منها، هي مريوط، وإدكو، والبرلس، والمنزلة، والبردويل، مسئولة عن إنتاج 75% من إجمالي الثروة السمكية في مصر … فلما أعلن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، مؤخراً، عن إزالة التعديات على البحيرات المصرية، قائلاً “أنا هارجع البحيرات في مصر كما كانت من قبل، ومش هنعمل مزارع سمك في البحيرات، ولازم نرجع مياه البحيرات لنظافتها”، مضيفاً أن هذا التطوير معني بالقضاء على الفوضى والإهمال، رأيت أن ألفت انتباه المواطن المصري لأهمية ذلك القرار الحيوي، لما له من آثار إيجابية على الاقتصاد المصري، إذا سيتيح المجال لاستثمارات جديدة، وكبيرة، ليس، فقط، في مجال تصنيع، وتعبئة وتغليف الأسماك، وما يرتبط بها من صناعات مكملة، وإنما سيفتح آفاق جديدة لصناعة الملح، الذي سيتم استخراجه من هذه البحيرات، في مراحل تنقيتها، واستعادة عزوبة مياهها، إذ يعتبر الملح، أو “كلوريد الصوديوم”، واحداً من أهم الصناعات الاستراتيجية، ومدخلاً إنتاجياً لمعظم الصناعات في العالم، فمثلاً يستخدم الملح بنسبة 67% في الصناعات الكيمائية، وبنسبة 8% في إذابة الجليد، ويستخدم في مجالات الزراعة بنسبة 6%، وفي الصناعات الغذائية بنسبة 6%.
وفي النهاية أؤكد أن مصر مليئة بالخيرات والإمكانيات، لكن الأهم من ذلك هو حسن إدارة مواردها وثرواتها، وعزم إدارتها على تحقيق كل الخير لها ولأبنائها بإذن الله.