تمهدَ الفنان التشكيلي والمخرج المسرحي العراقي البارع عماد نافع، في مسيرته الإبداعية متنقلًا بين فصول الشعر والمسرح والتشكيل، قبل أن تتبلور تجربته الفنية في أواخر التسعينيات. ويُعد نافع مؤسس مدرسة “المستشكيل”، التي تعني ألتزواج العضوي وألروحي بين التشكيل والمسرح في توليفة متداخلة مفعمة بأللون الحركة والرمز. وجاءت محطته البارزة في عامي 1999–2000 من خلال تجربته “الفضاء السابع” في “دار أفق للفنون” ببغداد، وعرضت على هامش ألمهرجان ألعربي للمسرح في بغداد هذه ألتجربة شكلت أولى لبنات هذا الاتجاه الفني. يعتمد نافع في رؤيته الإبداعية على تحويل اللوحة إلى مشهد مسرحي بصري يتجاوز الإطار التقليدي مستعينًا بلغة الجسد بنسبة تفوق 90%، ليخلق مشهداً حياً ينبض بالحركة. من أهم أعماله لوحة “الهروب إلى الله” من معرض أشلاء من جسد السماء (1995) – المملكة الهاشمية الاردنية ، حيث كسر حدود اللوحة التقليدية ليصور انفجارًا رمزيًا لعائلة تتجه نحو السماء طلباً للمعونة الإلهية. ويرى النقاد أن أعماله تشكل باستمرار حواراً بصرياً مفتوحاً، يمزج بين التشكيل والنحت والحركة المسرحية فيحرك اللون وألخطوط , ويحيل السكون إلى حركة والصمت إلى كلام. من خلال هذا الحوار، نسعى إلى الاقتراب أكثر من تفاصيل تجربته المتكاملة، وفهم فلسفته الفنية التي جعلته يحرّر شخوص اللوحة من قيود الإطار ليجعلها تتحرك على مسرح الحياة :
في البداية، نعود معك إلى لحظة ولادتك الفنية… متى انطلقت رحلتك مع الفن؟ وكيف تبلورت ملامح تجربتك الأولى بين المسرح والفن التشكيلي؟
الولادة الفنية كانت لها مرجعيات داخلية، فكانت البداية تشكيلية، حين حولت جدران شعبتي في مدرسة الواقدي الابتدائية إلى لوحات تشكيلية بقلم الرصاص، ولعل صورة الفنان الراحل عبد الحليم حافظ هي الابرز لما له من شعبية واسعة انذاك، أما أول لوحة تشكيلية رسمية اشتركت بها في المعرض التشكيلي المدرسي السنوي الذي كان يقام في قاعة النشاط المدرسي في الباب المعظم، وكنت طالباً في الصف الاول المتوسط، وكان موضوع اللوحة هو ” العامل ” بعدها بدأت موهبتي تتضح أكثر في الرسم، واتسعت مشاركاتي في المعارض التشكيلية المشتركة حتى وصلت المرحلة الاعدادية، واشرف على تدريسي مجموعة من الفنانين التشكيليين اذكر منهم المغترب استاذ قيس التميمي، ذات الحس الجمالي العالي الذي ولد معي وسكن روحي جعل نظرتي للمشهد المرئي في الحياة اليومية لم تكن تقليدية قط، بل احال المشهد إلى خطوط والوان وبدأت تتناسل في فكري المواضيع لتصير صور تشكيلية سواء كانت هذه المشاهد في الأسواق الشعبية أو في الاماكن الضاجة بالفقراء، أو الاطفال الحفاة، والازياء الفلكلورية كانت تغريني جداً، مرئيات أراها ببصيرتي قبل بصري، فتتحول إلى عالم متخيل بديع في ذهني.
* منذ بدايتك الجادة في التسعينيات وحتى اليوم ماالذي تغير في وعيك الفني ؟ وهل مازلت ترى الانسان هو المحور كما نبهت عنه في معرضك التشكيلي الاول ( انتبهوا …انه الانسان ) ؟.
هذا السؤال مهم حقا ‘ لانك اخترت فترة التسعينيات ..والتي كانت بالنسبة لي الفترة الذهبية فنياً حيث انتجت هذه الفترة تسع معارض تشكيلية مهمة جداً بيدَ اني دخلت إلى العالمية في هذه الفترة بعد أن وصلت أعمالي إلى اغلب دول العالم ” وفي هذه الفترة عملت على اسلوب المزاوجة بين التجريد مع السريالية، بأسلوبية سحب السكين، لأخلق لوحة التضاد اذ أبتدىء فكرة اللوحة في وضع أسسها التشكيلية، مضمون يخفي معناها، ومن خلال سيطرة السكين على سطح اللوحة يكون دور الفرشاة ثانوي، ومن خلال ضربات السكين تتوالد تدرجات متناسقة مع بنيائية هادئة وغير مكتظة أو مزدحمة بالرموز، لأخرج بأسلوب خاص بي وأحدد يقيني الاسلوبي، وهويتي الفنية مستقلة، في معارضي الأولى . وصولاً إلى تاسيس مدرسة ( المستشكيل ) أما على صعيد الوعي فالسنين لا تأتي فقط على اعمارنا بل تزيدنا وعياً وخبرة، لعلك يا سيدتي انتبهت إلى ما يتعرض إليه الانسان من هدم وهدر لكرامته كل يوم، بل في كل ساعة، وجريمته الوحيدة هي المطالبة بحريته واستقلاله . واعتقد أن مأساة غزة خير شاهد على ذلك، فتعرض الأنسان الى أقصى أنواع القتل والحرق والسلب والتجويع، هذا القدر الواسع من الحزن و المساحة الشاسعة من الدمار، هيمنة السواد على واقع أمتنا الغارقة في الدم والعالقة في وحل انهيار القيم، ووفق هذه المعطيات تتصاعد حدة اللون و اللوحة، ولكن لانترك المساحات الجمالية في العمل الفني، مهما كانت حدة اللوحة. تُعرف بلقب “المستشكيل” وقد أسست مدرسة فنية بهذا الاسم، هل تحدثنا عن فلسفة هذا التوجه وكيف تمازجت فيه عناصر المسرح مع الفنون التشكيلية؟ تجربة ” المستشكيل ” تعد من أهم تجاربي ألفنية على الصعيدين التشكيلي والمسرحي والحمدالله كانت لي الريادة في تأسيس هذا الاسلوب الفني الحديث، جاءت قبل مايقارب الـ ” 25″ سنة تقريباً، وأستطيع القول انها تتجاوز مابعد الحداثة، و كما هو معروف إن التعارضات مازالت قائمة بين” الحداثة ” وما بعد الحداثة. وهذا يؤكد على أهمية التجارب الفنية التي أحدثت حالة الوعي في ذاكرة المتلقي، مع أعتمادها على الموروثات، من هذا المنطلق جاءت تجربتي في المزاوجة العضوية والروحية بين التشكيل والمسرح، ليكونا تجربة واحدة أسميناها ” ألمستشكيل ” وهذه التجربة صلبة كالصخر، ولينة كالحرير، بيد انها تتجاوز حدود الحداثة فهي ثورة على الأطر التقليدية مادام الموضوع يحتاج إلى افاق أرحب، من هذا المنطلق كانت ومازالت تجربة ” المستشكيل مثار اهتمام، الاوساط التشكيلية والمسرحية محلياً وعربياً بل وحتى دولياً.