يعود التنوع الدينى والمذهبى والعرقى فى سوريا إلى جذور تاريخية عميقة. كانت أرض سوريا عبر العصور معبرًا ومقرًا لحضارات وشعوب متعددة؛ فانتشرت فيها الديانات السماوية مبكرًا، واحتضنت مهد المسيحية الأولى، ودخلها الإسلام فى القرن السابع الميلادى لينتشر بين غالبية سكانها مع بقاء طوائف مسيحية أصيلة.
كما ظهرت خلال العصرين الأموى والعباسى حركات مذهبية كالعلوية والإسماعيلية فى جبال الساحل السورى، ونمت الطائفة الدرزية، وغيرها. ولطالما وُصف المجتمع السورى بأنه «فسيفساء» غنى بالأعراق والطوائف، هذا التنوع استغلّه البعض سياسيًا وأصبح ميدانًا للاستقطاب بدلًا من أن يكون عامل وحدة.
فى التاريخ الحديث، لم تنجح الحكومات المتعاقبة فى جعل هذا التعدد رافعة لبناء هوية وطنية متماسكة؛ بل اعتمدت غالبًا سياسات إقصائية اختزلت مفهوم الهوية السورية فى بعد واحد (كالعروبة والإسلام). وهكذا تحوّل التنوع إلى مكمن ضعف تستغله الأطراف المختلفة. فعلى سبيل المثال، انتهج الانتداب الفرنسى صراحة سياسة تقسيم السوريين على أسس طائفية كما أسلفنا، مما زرع بذور الشك بين المكونات وساهم فى إضعاف الشعور الوطنى الجامع. وفى عهد الاستقلال ثم الوحدة مع مصر، أدت هيمنة الهوية العربية-الإسلامية الرسمية إلى شعور الأقليات بالتهميش الثقافى، وساعدت لاحقًا فى اندفاع الكثير منهم لتأييد انقلاب البعث الذى وعد بالمساواة.
خلال حكم البعث وبخاصة فى عهد الأسدين، جرى توظيف التنوع كسلاح سياسى بيد السلطة: أتقن النظام اللعب على ورقة الخوف الطائفى، فصوّر نفسه حاميًا للأقليات من تطرف الأكثرية، وحاميًا للأكثرية من خطر التقسيم إذا ضعفت الدولة.
شاع وقتها نوع من المحاصصة غير المعلنة فى المؤسسات، فالجيش وأجهزة الأمن يقودها غالبًا ضباط علويون، بينما ظهرت شخصيات سنّية فى الواجهة الحكومية والدبلوماسية لإبقاء التوازن الشكلى. هذه السياسة عززت الاستقرار السطحى لعقود – فالنظام منع أى اقتتال طائفى داخلى بقوة القبضة الأمنية – لكنها فى الوقت نفسه عمّقت الشروخ المجتمعية وراكمت الاحتقان تحت السطح.
انعكس تأثير التنوع أيضًا فى النزاعات الداخلية التى شهدتها سوريا. ومنها تمرد الإخوان المسلمين (١٩٧٦-١٩٨٢)، ورغم أن ذلك الصراع لم يتحول إلى حرب أهلية شاملة، لكنه خلّف ذاكرة مثخنة بالجراح لدى السنّة والعلويين على السواء، ومهّد لانعدام الثقة بينهما حتى انفجر الوضع مجددًا بعد عقود وتحديدًا فى ٢٠١١ مع بداية الحرب فى سوريا.
من جهة أخرى، عانى الأكراد أيضًا من التمييز القومى ما أدى لاحتجاجاتهم وظهور حركات كردية سرية معارضة منذ الستينيات. ومع أن التوتر العربى الكردى لم يصل لمواجهة مسلحة واسعة قبل ٢٠١١، إلا أن السياسات الرسمية (مثل مشروع الحزام العربى لتعريب مناطقهم فى الجزيرة، ومنع اللغة الكردية) أبقت شعورًا بالظلم لدى الكرد كمجموعة إثنية. ويمكن القول إن غياب معالجات عادلة لهذه الإشكالات جعل النسيج الوطنى هشًا فى مواجهة الأزمات.