تربّيتُ في بيت جدتي، كانت تحمل في يدها اليمنى الحكمة، وفي يدها اليسرى الخبز. بعد رحيل أمي، فتحت لي أبواب قلبها
كنّا نتنافس على أعمالٍ صغيرة تعلّمناها من أمهاتنا؛ التطريز، النسيج، والخياطة، تلك الحِرَف تحولت إلى طقوس صيفية تُحيي الأوقات الطويلة
تونس-الشّروق-وحيدة المي
هادئة، صامتة، رصينة ،متأمّلة و حضورها غير صاخب. لم نلتق لكن ماكتبته في هذه الفسحة الصيفية وضع أمامها المرآة فقرأتها من خلال النّص وانضباط التنقيط وهدوء اللغة وانسيابيتها. وهي تتحدّث عن صيفها عبَرت ” المسافات بلا جواز” من الخليج إلى بيتها الأوّل “، إلى “جدّتها و البحر” ل”تغْتسل بماء الذكرى وتتنفّس رائحة الموج” .قالت إنّ “بحر سلقطة الأزرق كان جارها الأقرب”،وأنّها ستحدّثنا من “أعماق الذّاكرة” عن ” تونس الأمومة وثرثرة الجدّات، و الأذان عند المغيب”. عن “بساطة اللحظات” و” صمت الظهيرة” وصمتها المتأمّل و”طفولتها المرهفة ” وهي تنمو في حضن جدّة ” ربّتها على الصمت ” ومنحتها “الأمان ” …الشّاعرة والباحثة الدكتورة آمال بوحرب فتحت تلك النوافذ القديمة لتحدّثنا عن كلّ هذا في صيف ذات زمن….
في أقصى مدى الذاكرة، لا تزال طفولةٌ حافية تمشي بداخلي. طفولة ترتدي رداء الضوء وتنام مطمئنّة على ركبة الزمن دون أن تتعب. لم تكن فيها الدهشة شيئًا نتعلمه، بل كانت الدهشة ذاتها، تولد في كل زاوية وتغفو على حوافّ النوافذ الجنوبية.
تربّيتُ في بيت جدتي… تلك المرأة التي كانت تحمل في يدها اليمنى الحكمة، وفي يدها اليسرى الخبز. بعد رحيل أمي، فتحت لي أبواب قلبها دون تردّد. لم تُعلّمني الحروف فقط، بل كانت تربيني على الصمت حين يكون أبلغ من أي قول. لم تكن تحكي كثيرًا، لكنها كانت تعلّمني أن الدفء لا يحتاج إلى كلمات، وأن الأمان قد يسكن كفًّا تلمسك قبل أن تنطق.
وكان جاري الأقرب البحر… بحر سلقطة، الأزرق الصافي، الذي يُعدّ من أجمل البحار عالميًا. صمته علّمني الإنصات، وهيجانه شرح لي غضبي الصامت. كنت أستلهم منه ثباتي . في البحر وجدت لغة لم تُكتب، ومشاعر لا تُترجم. لم أتعامل معه كصورة شاعرية فحسب، بل كنصّ مفتوح نقرؤه حين يعجز الواقع عن احتوائنا.
كانت أصياف الطفولة تنسج لنا أجمل الحكايات بين رداء البحر وجلسات الأصدقاء تحت سماء الصيف الزرقاء. نتشارك بساطة اللحظات، ونتنافس بلطف على أعمالٍ صغيرة تعلّمناها من أمهاتنا؛ التطريز، النسيج، والخياطة، تلك الحِرَف التي تحولت إلى طقوس صيفية تُحيي الأوقات الطويلة. كنا نغوص في البحر صباحًا، ونعود إلى البيت الصيفي حيث السكون يعمّ، يمنحنا فسحة للتأمل وانتظار المجهول. هناك، كنت أشعر وكأنني أقف على عتبة مستقبلٍ لم تُكتب فصوله بعد.
في الصيف، يعود هذا النداء أكثر حدة، كأنّه صوتٌ خافت ينبعث من أعماق الذاكرة. أسمعه في صمت الظهيرة، في ظلّ شجرة التين، في ابتسامة امرأة عجوز تذكّرني بجدّتي. كانت طفولتي مرفهة لأنني كنت البنت الوحيدة لدى جدتي بعد وفاة والدتي، وكوني أنتمي إلى عائلة ذات وزن اجتماعي وثقافي، منحني امتيازات كثيرة. لكن، رغم كل ذلك، كان الألم يسكنني في صمت. كانت تلك الواجهة الهادئة تخفي خلفها تمزّقًا داخليًا، وغربة جديدة بدأت حين اضطررت للانتقال إلى العاصمة، بعيدًا عن دفء جدتي ثم غادرت الوطن إلى أوطان جديدة. ربما كان ذلك الألم هو ما جعلني منذ صغري كاتبة وشاعرة. تمردتُ على أوضاع كثيرة وخضعت في مواقف أخرى، لكنني في النهاية تحررت. لم أُسقط المفاهيم كما أسقطها المجتمع علينا، بل تعلّمت كيف أُعيد تشكيلها من منظور مختلف، أقرب إلى التجربة والصدق.
ولأن الإنسان لا يعيش عالقًا في تلابيب الماضي، تعلّمت أن لا أفتخر بدوري فقط، بل أن أفتخر بذاتي. أن أكون قادرة على صناعة رحى جديدة من كل سقوط، وعلى تحويل الفشل إلى خطوة أخرى نحو النور. فالحياة ليست سوى مراحل متعاقبة من الانكسارات والانتصارات، لكن ما يثبّت خطانا فيها هو الصدق مع الله، والصدق مع الآخر. فالمحبة لا تأتي من فراغ، ولا تولد في فراغ، ولا تُترجم بأقوال دون أفعال. إنها فعل دائم، وفهم عميق للذات قبل أن تكون صلة بالناس.
واليوم، أكتب لأعود إلى تلك الطفلة التي لا تزال تسكنني. تبتسم من الزاوية، وتدعوني أن أغتسل بماء الذكرى، وأتنفّس رائحة الموج، لا لأشرح، بل لأتذكّر. فالصيف في الغربة… صمتٌ لا يشبه البحر، ولا رائحة خبز، ولا ظلّ جدتي على العتبة. هو كالتقويم، لا يحمل إلا التواريخ. لا يخفف وطأته سوى الكتابة. بها أعبر المسافات بلا جواز، وأعود إلى بيتي الأول، إلى جدتي، وإلى البحر.
تونس، بلهجتها العذبة ونبضها الهادئ، لا تترك أبناءها للتيه. قد نغيب عنها، ونبتعد بفعل الوقت والمسافات، ولكنها تعرف كيف ترسل إشاراتها السرية. ربما في قصيدة تصلني من شاعر في الساحل، أو في صورة شاطئ من حلق الوادي، أو حتى في ضحكةٍ عبر مقطع قصير من راديو الوطن. هناك ما يُوقظ فينا الحنين، لا بصفته شوقًا فقط، بل بصفته وعيًا: وعيًا بأننا نُنبت جذورنا حتى في الغياب.
ليست الذكريات وحدها ما يربطني بهذا الحنين، بل أيضًا كل لحظة أتوقف فيها عن اللهاث، وأُصغي لما في الداخل. ففي كل وقفة أمام البحر، أكتشف شيئًا جديدًا في ذاتي، وكأن الموج يُعلّمني كيف أكون أكثر صبرًا، أكثر بساطة، وأكثر قربًا من تلك التي كنْتها في بدايات الضوء. البحر ليس فقط مرآة لمزاجي، بل مرآة لتونس التي في داخلي: فيها دفء الأمومة، وثرثرة الجدّات، وصوت الأذان عند المغيب.
**********
يا بحر…
يا بحرُ، كم خبّأتَ من سرٍّ لنا فكأنّ في أعماقك الأرواحُ تنسكبُ تحكي لنا الأشواقَ في لُجَجِ الحنين وتوشوشُ الحُلمَ الذي ما زال ينتسبُ ما كنتَ ماءً… بل كتابٌ من رؤى نقرأ به ما لا يُقالُ ولا يُكتَبُ يا بحرُ، أأنتَ سُهادُ الكواكبِ حين تُسقطُ ؟ أم آهَةُ الندمِ الأولى حين تلامسها أقدامُ الغياب؟ في زرقتِك نَدبةُ الغيم، وشهقةُ الطين حين ينادي ظلَّه… فيك انحنت المرايا خجلًا وصعدت المواويلُ من فم الرملِ عطشى، تستجدي انسكابا