قسم القانون الإداري والدستوري – كلية الحقوق – جامعة جنوب الوادي
ما يزيد الألم فوق الألم أن يكون الظلم من الأقارب، أو ممّن يسمي نفسه قريبًا، ولله درّ الشاعر إذ قال: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند”
لقد حرّم الله -عز وجل- الظلم على نفسه، وحرّمه على عباده، كما ورد في الحديث القدسي: “يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا” – رواه مسلم.
في زمنٍ طغت فيه المادة على القيم، وشغف الناس بالمال حتى صار فتنةً تقضي على أواصر القربى، نسمع عن حوادث تقشعر لها الأبدان وتدمع لها العيون. تحدٍ نراه منتشرًا بشكل كبير في مناطق الصعيد والريف، حيث تكشف لنا هذه الأماكن وجهًا مظلمًا من وجوه البشرية، إذ تحوّل الخال – الذي كان يُقال عنه “الخال والد” – إلى مقولة أخرى: “الخال واكل”، وكذلك تحوّل الأخ، الذي كان يومًا سندًا، إلى عدو، وتحوّلت الروابط العائلية إلى ساحة صراع من أجل حفنة من المال.
أيعقل أن يُنسي حب المال الإنسانَ معنى الرحمة؟ أيُنسيه عظمة الدم الذي يجري في العروق ذاتها؟ إن مثل هذه المآسي تدعونا للتفكر بعمق في حقيقة الحياة الدنيا، التي نتقاتل ونتنازع عليها، وهي في حقيقتها زائلة.
أكل الميراث تسود في بعض المجتمعات تقاليد جاهلية تحرم النساء من الميراث، بحجة أنها “عادات الأجداد”، لكن الله ذمّ اتباع التقاليد الباطلة، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾
إن قضية الحرمان أو التحايل على أكل الميراث أصبحت من الظواهر المؤلمة التي نراها في كثير من المجتمعات. كم من امرأة حُرمت من حقها المشروع! وكم من يتيم أُكلت حقوقه على خلاف شرع الله! وكم من ضعيف لم يجد من ينصفه!
كم من ابن أخت نراه أمامنا وهو في أشد الاحتياج لهذا المال، لضيق حاله، لكن خاله يزيد عليه فوق الضيق ضيقًا، ويفتعل معه الأفاعيل، ويستخدم الحيل القانونية كافة، ليأخذ نصيب إخوته بكل عبث، متناسيًا كلام الله -عز وجل-، المالك القهار، الذي توعّد الظالمين بالعذاب، فقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ وقال أيضًا: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾
الميراث هو وصية من الله لعباده، وقد بيّن سبحانه أنصبة الورثة في القرآن بتفصيل دقيق. ومن يتأمل الآيات التي تتحدث عن الميراث، يجد أن الله ختمها بصفة العلم، للدلالة على إحاطته وحكمته، فقال: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
إن الله أوصى بتقسيم الميراث وفق منهجه، وجعل هذه الوصية باقية إلى يوم القيامة، وليس وفق الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية، التي تدفع البعض إلى استغلال جهل أخواته بالقراءة والكتابة، أو استغلال ضعف والده ومرضه، وإجباره على التوقيع.
لقد رأيتُ بنفسي قصصًا واقعية من هذا القبيل؛ أحدهم استغل جهل والده بقواعد وأصول علم الميراث، فكتب أملاكه لأبنائه الذكور فقط، دون أن تأخذه رأفة أو حنان أبوة تجاه بناته أو أبناء بناته، وهم في أشد الحاجة لهذا الميراث.
ورأيتُ قصة أخرى، يقوم فيها الأخ بالتدليس واستخدام الحيل الدنيئة، لكي يجعل أخته توقّع له على التنازل عن حقها في نصيب والدها، مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. استغل طيبة أخته ورفقها به، وترك أبناءها بلا شيء من نصيب جدّهم، متناسيًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه” – رواه الترمذي.
إن حادثة كهذه ليست مجرد قصة مؤلمة نسمعها ثم ننساها، بل هي ناقوس خطر يدقّ في أعماق قلوبنا، ليذكّرنا بقيمة الحياة، وأهمية الحفاظ على روابط الأخوّة والرحمة. ما الذي نربحه حين نفقد إنسانيتنا من أجل حفنة من المال؟ وهل تستحق دنيا زائلة أن نضحي فيها بأغلى ما نملك: الدين، والأخلاق، والعائلة؟
إلى كل من أكل ميراث أخيه أو أخته بغير حق، أذكّرك بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾
ألم تعلم أن الميراث قسمة من الله العادل الحكيم؟ وأن التعدي على حقٍّ قسّمه الله هو تعدٍّ على حدود الله؟ أتبيع آخرتك بدنيا زائلة؟ أتستبدل الجنة بنارٍ تتلظى؟
هل هذا هو العدل؟ هل هذا هو تقسيم الميراث من وجهة نظركم؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
تذكّر يوم تقف بين يدي الله وحدك، بلا مال، ولا جاه، ولا قوة، وستُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فبأي حجة ستجيب؟
وللأسف الشديد، فإن ما يدفع البعض لأكل الميراث هو ضعف الإيمان، إذ يتشبه هؤلاء بأعداء الله الذين قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
كما أن الطمع والجشع يدفع الكثيرين لاغتصاب حقوق الورثة، ظانّين أن ذلك يزيد أموالهم.
لذلك، نحث الجهات المعنية على وضع الآليات والقوانين الكافية، التي تضمن الحفاظ على حقوق الإناث من إخوتهم الذكور، الذين يلجأون إلى الأفاعيل ويخترعون الحيل والثغرات القانونية، ليتجنبوا العقاب. لذا، يجب تحقيق الردع العام لهؤلاء، الذين يؤثرون على من حولهم، وينتشرون بسرعة البرق، حتى أصبح البعض يعتبر أكل الميراث عرفًا صحيحًا، ومن يعطي إخوته نصيبهم عرفًا خاطئًا.