ما الذي يدفع رئيس دولة بحجم مصر إلى توجيه نداء علني ومباشر إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب؟ ولماذا اختار عبد الفتاح السيسي مخاطبته بالاسم، متجاوزًا الخطاب العام الذي يخاطب المؤسسات الدولية، ومفضّلًا التوجه نحو شخص واحد؟ في خطابه المتلفز مساء الإثنين 28 يوليو 2025، وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نداءً لافتًا للرئيس ترامب، دعاه فيه إلى التدخل الفوري لوقف الحرب في غزة، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية العالقة على الحدود. كان الخطاب حاسمًا وصريحًا، ومحمّلًا برسائل سياسية تتجاوز الموقف الإنساني الظاهري. لم يكن هذا الخطاب تقليديًا. بدا وكأنه اعتراف ضمني بأن أدوات الضغط الدبلوماسي المعتادة قد استُنفدت، وأن الرهان الآن على النفوذ الشخصي والسياسي الذي يتمتع به ترامب في المنطقة، لا سيما في إسرائيل. فالسيسي لم يقل إن ترامب “أحد القادرين” على إيقاف الحرب، بل قال إنه “الوحيد القادر”، في عبارة لا تخلو من مغزى سياسي ورسالة غير مباشرة إلى من هم خارج دائرة التأثير الفعلي. مصر، منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر 2023، التزمت بموقف ثابت يقوم على ثلاث ركائز واضحة: أولًا، المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار؛ ثانيًا، ضمان إدخال المساعدات الإنسانية بشكل مستمر وآمن؛ وثالثًا، السعي نحو إطلاق سراح الرهائن من الجانبين. هذه المبادئ ظلّت حاضرة في كل تحركات القاهرة الدبلوماسية، سواء عبر التنسيق مع الولايات المتحدة وقطر، أو عبر القنوات الأممية. لكن الخطاب الأخير للسيسي كان يتجاوز المبادئ إلى ما يشبه التحذير. حين قال إن مصر “لن تقبل تحت أي ظرف بتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم”، فإنه يضع خطًا أحمر واضحًا في وجه سيناريوهات يجري تداولها منذ شهور، تتحدث عن إعادة توطين سكان غزة في سيناء أو الأردن. وهذا الطرح، وإن لم يُعلن رسميًا من قبل أي دولة، فقد تسرب في تصريحات ومداولات وأوراق سياسات تم تداولها في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية خلال الأشهر الماضية. رسالة السيسي هنا كانت حاسمة: غزة ليست عبئًا جغرافيًا على مصر، بل مسؤولية دولية، وأي محاولة للتخلص من سكانها بالقوة تعني نسفًا تامًا لحل الدولتين وإشعال فتيل طويل من عدم الاستقرار في المنطقة. هذه ليست مجرد كلمات سياسية، بل إنذار مبكر من دولة تعرف تمامًا ما يعنيه تغيير التركيبة السكانية لحدودها الشرقية. كما حرص الرئيس المصري على توضيح موقف بلاده من المعابر، وعلى رأسها معبر رفح، حيث أشار إلى وجود مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات على الجانب المصري، تنتظر التنسيق الميداني من داخل غزة. وفي هذه النقطة تحديدًا، بدا وكأنه يردّ على محاولات تحميل مصر مسؤولية تأخير إدخال الإغاثات، وهي تهمة حاولت بعض الأطراف ترويجها لتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل. الخطاب، بلهجته المباشرة، أشار إلى أزمة ثقة في أداء المنظومة الدولية، لكنه في الوقت ذاته قدّم مصر كدولة “فاعلة وليست مراقبة”، تملك أوراقًا، وتدرك حدودها ومسؤولياتها. وربما هذا ما يفسر توجيه الرسالة إلى ترامب شخصيًا، وليس إلى المؤسسات الغربية ككل: السيسي يدرك أن التغيير لن يأتي من الأمم المتحدة أو بروكسل، بل من مركز الثقل الفعلي في العلاقة مع إسرائيل. في ظل تآكل ما تبقى من الإجماع العربي، وغياب قيادة إقليمية موحّدة، تبدو هذه المبادرة المصرية محاولة جادّة لإعادة رسم دور القاهرة في المعادلة، ليس فقط كوسيط تقليدي، بل كضامن سياسي لأمن المنطقة ووزن استراتيجي لا يمكن تجاوزه. خطاب السيسي في 28 يوليو 2025 لم يكن مجرد إحاطة إعلامية، بل لحظة صدق دبلوماسي، ونقطة تحوّل في شكل تعاطي مصر مع الأزمة الفلسطينية، من دور المراقب إلى موقع الموجّه للنداءات، وربما، في المرحلة القادمة، لصياغة الحلول.
عبد الله معروف…. كاتب وباحث في الشؤون السياسية العربية والدولية.