في عمق كل تجربة إنسانية صادقة، ينبض العِشق كقوة خفية، تشدّنا إلى الحياة، وتدفعنا إلى التساؤل، وتغري أرواحنا بالسفر نحو المعنى. وأنا، كامرأة عرفت العشق في الكلمة واللون، في القصيدة واللوحة، وجدتني أكتب “رسائل من رحم العِشق” (ديواني الثاني) لا كدفق وجداني فحسب، بل كبحث فلسفي وصوفي في ماهية هذا الإحساس الإنساني المتجذّر في كينونتنا.
العِشق، كما عشته وكتبته، ليس مجرد انفعال عابر، بل هو تجلٍّ لحقيقتنا الوجودية، مرآة تَكشف هشاشتنا وقوّتنا، وتضعنا وجهاً لوجه أمام ذواتنا. في حضرة العِشق، يصبح الشعر فعل تأمل، والفن وسيلة خلاص، والفلسفة انحناءة أمام الجمال المطلق.
حين كتبت “رسائل من رحم العِشق”، لم أكن فقط أبوح بلغة القلب، بل كنت أُحاور أفلاطون حين تحدّث عن الجمال، وأُصغي لابن عربي حين قال “الحب ديني وإيماني”، وأتنفس من رؤى نيتشه حين رأى في الحياة سعيًا دائمًا نحو السمو. وجدت في العِشق فلسفتي، وفي الفلسفة عشقي.
وفي هذا المقال، أحاول أن أنسج خيوط تجربتي الشعرية مع أسئلتي الفلسفية، أن أضع العِشق في قلب السؤال الإنساني: من نحن حين نُحب؟ وماذا يكشفه العِشق من أعماقنا؟ وهل نحب الآخر أم نحب انعكاسنا فيه؟
العِشق مغامرة وجودية، لا تكتمل إلا حين نلامس حدود اللامرئي. هو سُكر الوعي، وتيه المعنى، وهو أيضًا يقظة. في لحظات العشق الحقيقي، نصبح أكثر صدقًا، أكثر جرأة، وأكثر إنسانية. وقد يكون العِشق، في جوهره، بحثًا عن المطلق، عن الخلود، عن الواحد المتعدد.
أكتب هذا النص كفنانة تشكيلية تلوّن مشاعرها، وكشاعرة تنسج من اللغة كيانًا حيًا، وكامرأة عربية ومغربية تنتمي إلى ثقافة جعلت من العِشق تراثًا شعريًا وصوفيًا وروحيًا. فالعِشق في سياقنا ليس فقط تجربة شخصية، بل هو أيضًا تجربة حضارية.
العِشق مغامرة وجودية، لا تكتمل إلا حين نلامس حدود اللامرئي. هو سُكر الوعي، وتيه المعنى، وهو أيضًا يقظة. في لحظات العشق الحقيقي، نصبح أكثر صدقًا، أكثر جرأة، وأكثر إنسانية. وقد يكون العِشق، في جوهره، بحثًا عن المطلق، عن الخلود، عن الواحد المتعدد
العشق أصدق تعبير عن الروح” اكبر من أن يكون نزوة، أو لحظة عابرة. هو عبق نبتة زُرعت في أرض بور خصبة عابرة للأزمنة والأمكنة والأرواح، تتسلل من بين ثنايا لغة النبض ومن تحت جلد الحضارات. هو السؤال الأبدي الذي يسكن في نظرة ووجدان العاشق، في تأمل الفيلسوف، وفي دعاء المتصوف. هو شعور يُحس ولا يُكتب ، يَعوم في ماء القلب مُغترب في التيه ، لا يحتاج وسائط يئتلف بالمحبوب ويتحد حتى يُصبح وردة مزهرة في السماء والأرض، بجناحي الحرية وطين الوجد. منذ اللحظة التي رفع فيها الإنسان رأسه إلى السماء وتساءل: “من أنا؟” كان العشق جزءاً من السؤال، وجزءاً من الجواب. إنه توقٌ إلى الانصهار، إلى المعنى، إلى أن يجد الإنسان ذاته في مرآة الآخر، أو في صدى اللامرئي. العشق أجمل رحلة على متن طبقات الروح والفكر، حيث يلتقي الجمال الدهشة الحزن والأمل وكل عوالم الأحاسيس وأكوان الوصال.
الفصل الأول بذور العشق من الطين إلى الإله
في فجر الحضارات، كان العشق يتنفس عبر الأسطورة. لم يكن شعوراً داخلياً فحسب، بل فعلاً كونياً. في ملحمة “جلجامش”، وفي أسطورة “إينانا”، وفي ترانيم الإلهة “إيزيس” لزوجها “أوزيريس”، نلمح العشق وهو يخلق الحياة من الموت، ويعيد التوازن إلى الكون. كان العشق آنذاك قوة خَلقيّة، تربط بين السماء والأرض، بين الإله والإنسان، بين الخصوبة والموت.
في الهند القديمة، ارتدى العشق ثوباً مقدساً. لم يكن مجرد رغبة، بل بوابة نحو التحرر. “كاما”، إله الحب، لم يكن عدواً للروح، بل أحد مفاتيحها. وفي تعاليم “التنترا”، يصبح الجسد معبراً إلى الإلهي، ويغدو العناق طقساً من طقوس المعرفة.
كان الإنسان القديم يعلم – أو يشعر – أن العشق لا يُختزل في الجسد، ولا يُفهم بالعقل فقط. كان قوة تسري في الماء والنار، في نمو الزرع، وفي دمعة اليتيم، وفي انحناءة الأم على طفلها.
تلك كانت بذور العشق: لا فلسفة بعد، ولا تحليل. فقط طقوس، ورموز، وهمسات بين الإنسان والكون. التقاطع بين الفلسفة والعشق ليس مجرد التقاء عرضي بين موضوعين، بل هو التقاء جوهري؛ لأن كلاهما – العشق والفلسفة – حركة وجودية نحو المعنى.
العشق كبحث عن الكمال… كالفلسفة تماماً
الفلسفة، منذ نشأتها، هي توق إلى الحقيقة، إلى الحكمة، إلى ما هو “أسمى”. والعشق – كما يصوره أفلاطون وابن عربي وغيرهما – هو نزوع إلى المطلق، إلى الجمال الكامل، إلى المعنى الأبعد من الجسد واللحظة.
الفيلسوف والعاشق: كلاهما “نقص” يسعى للامتلاء
كلاهما يشعر بـ”نقص”، لكنه ليس نقصاً مادياً، بل نقصاً وجودياً يدفع نحو الآخر: الفيلسوف يشعر أن العالم لا يكفيه، فيسأل ويحلل ويتأمل. العاشق يشعر أن الذات وحدها لا تكفي، فيطلب الآخر، ويذوب فيه، وأحياناً يتجاوز حتى الآخر إلى المطلق.
العشق كأداة كشف معرفي في الفكر الصوفي والفلسفي، العشق لم يكن فقط شعوراً بل أداة معرفة. ابن عربي يرى أن العاشق يعرف الله من خلال المحبوب. أفلاطون يرى أن العاشق يرتقي من حب الأفراد إلى فهم الجمال ذاته. كيركغارد يرى في الحب اختباراً للإيمان والوجود.
العشق والفلسفة ضد الابتذال
كلاهما ثورة ضد التفاهة. الفلسفة ترفض الأجوبة الجاهزة، وتطلب العمق. والعشق الحقيقي يرفض العلاقات السطحية، ويسعى للاندماج، للصدق، للخلود.
العشق كفلسفة حياة
في الفلسفة الوجودية، العشق يتحوّل إلى سؤال عن الحرية، المعنى، العلاقة مع الآخر، والقلق الوجودي. سارتر ودي بوفوار ناقشا كيف أن الحب يتقاطع مع الرغبة في التملك، وفي الوقت ذاته مع احترام حرية الآخر. فهو تجربة فلسفية بامتياز: يعيش فيها الإنسان التمزق بين الأنا والآخر، بين الرغبة والمسؤولية.
الفصل الثالث: وجع المعنى
العشق في مرآة الوجود الحديث
حين دخلت الفلسفة أروقة الحداثة، تغيّر وجه العشق. لم يعد ملجأً للمطلق، بل صار سؤالاً يئنّ تحت ثقل الذات المنفصلة، والحرية المربكة، والشك الوجودي. لم يعد العاشق يرى الله في محبوبه، ولا الجمال في مثالٍ أفلاطوني، بل بدأ يرى نفسه… وحيداً، ممزقاً، يتساءل: “هل يحبني؟” و”هل يحق لي أن أحب؟” و”هل الحب حرية أم قيد؟”
كيركغارد، الفيلسوف الدنماركي، رأى في الحب تجربةً إيمانية، لا تُختزل في العاطفة، بل تتطلب تضحية، قفزة، واختياراً أخلاقياً. عنده، الحب الحقيقي يتجاوز الرغبة، ويتجلى في القدرة على الالتزام، حتى حين يجرحنا الآخر، وحتى حين لا نفهمه.
أما نيتشه، فكان أكثر صخباً. عشق، نعم، لكن عشق لا يعرف الخضوع. بالنسبة له، الحب المثالي وهم. الحب قوة، رغبة في التمكين، فعل إرادة. قال: “في الحب الحقيقي، هناك رغبة في التملك، لا في العطاء فقط”. لكنه لم يرفض العشق، بل فضح أقنعته، وحرّض على أن يكون الإنسان عاشقاً خلاقاً، لا عاشقاً خانعاً.
ثم جاء جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، في زمن فقدت فيه السماء أصداءها، وصار الإنسان وحيداً في كونٍ صامت. قالا إن الحب محاولة مستحيلة: نحن نرغب أن نكون أحراراً، لكننا نرغب في أن نمتلك الآخر أيضاً. نريد أن نُحب دون أن نُستهلك. نريد الآخر، لكن لا نريد أن نفقد أنفسنا فيه. العشق، في نظرهم، تجربة وجودية شائكة، تتقاطع فيها الحرية، والخوف، والرغبة، والقلق من الزوال.
هكذا، في الفلسفة الحديثة، أصبح العشق مرآة لكينونة الإنسان: مرآة تكشف هشاشته، رغبته في الخلود، وفي الوقت نفسه عجزه عن الإمساك بالحقيقة كاملة.
لم يعد طريقاً إلى المطلق، بل حواراً متوتراً مع الآخر… ومع الذات.
جميل، فالمغرب غنيّ بتجارب عشقية وفلسفية متداخلة، تَشرب من الصوفي، وتستنير بالفلسفي، وتتمازج مع الشعر والتصوف والهوية التاريخية. إليك عرضاً لأهم تجارب فلسفة العشق في السياق المغربي، عبر شخصيات ومظاهر متعدّدة:
فلسفة العشق في المغرب: تجارب روحية وفكرية العشق الصوفي: “الحب طريقاً إلى الله في المغرب، يمتزج العشق بالصوفية، ويُفهم غالباً على أنه وسيلة للاتحاد مع الحق، لا مجرد مشاعر بشرية.
الشيخ أحمد التيجاني (فاس): مؤسس الطريقة التيجانية، ربط بين العشق الروحي والنبي محمد، حيث كان الحب للنبي طريقاً للتجلّي والصفاء.
مولاي عبد السلام بن مشيش: كانت أقواله مليئة بمحبة ربانية شفافة. دعاؤه المشهور “اللهم صل على من منه انشقّت الأسرار…” هو نص عشق صوفي خالص، يرى في النبي تجليّاً جمالياً للحق.
الحلاج المغربيون: مثل أبي الحسن الشاذلي الذي تتلمذ في المغرب قبل أن يؤسس طريقته بمصر، كانوا يرون العشق ذوباناً في الذات الإلهية، وتجاوزاً للأنانية.
العشق في الشعر المغربي: الكلمة كجسد للعاطفة
الملحون: تراث مغربي شعبي غنيّ، يتغنّى بالعشق، لكن بنبرة تمزج الجسدي بالروحي. أمثلة مثل “الغزال فاطمة”، و”العيون الكحيلة”، تظهر كيف يمكن للعاشق أن يتغزل بالمحبوبة وفي الوقت ذاته يمرر أبعاداً وجودية واجتماعية. أحمد المجاطي ومحمد بنيس: في أشعارهما، يظهر العشق كبحث عن الذات، عن الهوية، عن الخلاص من القمع والتفكك. الشعر عندهما ليس مجرد وصف للحب، بل تمرين فلسفي على الحرية والانكسار.
العشق في الفكر الفلسفي المغربي الحديث
طه عبد الرحمن: الفيلسوف المغربي الكبير، رغم أنه لا يتحدث عن “العشق” بالمعنى الصوفي أو الرومانسي، إلا أن فلسفته الأخلاقية تعتمد على “الحب” كقيمة عليا. يرى أن المحبة تتأسس على الحرية والتزكية، وأن الإنسان العاشق أخلاقياً هو الذي يعيد توجيه ذاته نحو المعنى.
عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري: لم يكتبوا عن الحب صراحة، لكنهم عاشوا تجربة “العشق الفكري” للحداثة، وللحرية، وكانوا واعين بتمزق العاشق العربي بين التراث والحداثة.
العشق في التجربة اليومية والثقافية المغربية*
في الأمثال الشعبية: كثيراً ما يُستخدم العشق كرمز للجنون، أو للتحدي. مثلاً: “العاشق ما يعياش”، “اللي يحب ما ينساش”.
في الطقوس: المواسم الصوفية مثل “موسم مولاي عبد الله”، و”موسم الصويرة” تمزج بين الاحتفال الديني، والعشق الإنساني، والبحث عن بركة وشفاء. في الأغنية المغربية المعاصرة: من أمثال الفنان عبد الهادي بلخياط إلى أسماء المنور، تتجلى نظرة للعشق كمزيج من الحنين، الألم، والسمو. في المغرب، العشق ليس شعوراً منفصلاً عن الروح أو المجتمع. إنه تجربة تتداخل فيها الهوية، الجمال، الدين، والتاريخ. فالعاشق المغربي لا يرى الحب خارج الذات، بل يعيشه كطريقة في الوجود، كما يعيشه الصوفي كطريق إلى الله، والشاعر كطريق إلى الحرية.
تجربتي مع العشق دهشة على الجمر وبسمة من أمل ، في “رسائل من رحم العشق”
حين يكتب العاشق شعراً، لا يكتب كلمات، بل يكتب دمه وهو يُقطَّر من جرحٍ لم يندمل بعد. في ديواني “رسائل من رحم العشق”، لم أكن أبحث عن الحب، بل كنت أبحث عن نفسي التي ضاعت في مرآة الآخر. كان كل نصٍّ محاولةً لفهم هذا الارتباك الذي يحدث حين تلامس الروح روحاً أخرى، في اشتباك بين الحنين، والخذلان، والتجلّي.
كتبت لأن العشق ليس شعوراً عابراً، بل فلسفة حياة. هو ذاك النزيف الجميل الذي يُطهّرنا من سطحيّتنا، ويُعرّينا من أوهامنا. في كل رسالة، كنت أتكلم نيابة عن آلاف النساء اللواتي أحببن بصدق، فدفعن ثمن الحقيقة قسوةً، وصمتاً، ونُضجاً لا يُشترى.
لم أكتب عن الحب، بل كتبت من داخله. من رحم الألم الذي يجعل العاشقة ترى في الخيبة درباً للمعرفة، وفي الغياب درساً في الحضور.
وكتبت أيضاً لأن الكلمات كانت آخر ما تبقى لي من العناق.”
عشقي لم يكن ضعفاً، بل مقاومة. ولذلك أرى نفسي امتداداً لتلك الرحلة الفلسفية التي بدأها أفلاطون، وتطهّرت فيها رابعة، وتألّق فيها ابن عربي، وتألم فيها نيتشه.راع نحو الحقيقة. تجربتي الشعرية كجزء حيّ من تاريخ العشق في المغرب والعالم العربي، يُبرز امتدادي الطبيعي ضمن سلسلة العاشقات الكاتبات والمفكرات اللواتي حولن الألم إلى معرفة، والحب إلى حكمة.
حين أكتب العشق من رحم الذات
في سياق العشق العربي والمغربي، الذي لطالما تداخلت فيه الأصوات الشعرية بالأسئلة الوجودية، تبرز تجربتي انا الشاعرة هناء ميكو كصوت أنثوي معاصر، يحمل وهج العاشقات الصوفيات وجرأة المتأملات الفلسفيات. ديواني “رسائل من رحم العشق” ليس مجرد نصوص، بل هو وثيقة وجدانية/فلسفية عن الحب بوصفه تجربة تطهّر، ونضج، وتحوّل.
في هذه الرسائل، لا نقرأ حكاية حب تقليدية، بل نواجه كينونة عاشقة تقف على حافة الأسئلة: لماذا نحب؟ كيف نصمد في وجه الخذلان؟ وهل الكتابة قادرة أن تداوي ما لا يُقال؟
مثل رابعة العدوية، العشق عند ي انا هناء ليس فقط بحثاً عن الآخر، بل عبورٌ نحو الذات، وتجلٍّ لجمال مخبوء في الألم. وكما فعل ابن عربي حين جعل الحب طريقاً للمعرفة، تفعل هناء الشيء نفسه، حين تكتب من عمق الخيبة والحنين، محاولةً أن تستعيد ليس الحبيب، بل جوهرها كأنثى وكإنسانة.
تجربت تمثل امتداداً طبيعياً لتاريخ نسوي مغربي وعربي غنيّ، من ولادة بنت المستكفي، إلى مي زيادة، وصولاً إلى الأصوات الجديدة التي تُجيد تحويل العاطفة إلى موقف فلسفي وشعري في آنٍ واحد.
هناء ميكو… حين يُكتب العشق من رحم الذات
في سياق العشق العربي والمغربي، الذي لطالما تداخلت فيه الأصوات الشعرية بالأسئلة الوجودية، تبرز تجربتي كصوت أنثوي معاصر، يحمل وهج العاشقات الصوفيات وجرأة المتأملات الفلسفيات. ديوانها “رسائل من رحم العشق” ليس مجرد نصوص، بل هو وثيقة وجدانية/فلسفية عن الحب بوصفه تجربة تطهّر، ونضج، وتحوّل.
مُتَحَرِّرَةً من قُيودِ غَسَقِ الجَوارحِ حتى هَلَّ هِلالُها وهي تتسائلُ هل ٱسْتَفْتى رهافتَهُ أم فراسةَ حِكْمتهِ أم هُما معاً لٱقتحامِ مِحْرابِها غير مُستأذنٍ؟ … أَحَبَّتْهُ وهي على دِرايةٍ ووعْيٍ أنهُ ليسَ لها ٱكتفت به حُلماً لكن القَّدرَ كان أكثرَ طمعاً في ٱختيارهِ عابراً للمَجَرَّاتِ في زمنِهِ صبوراً في سنواتهِ الضوئية لعل الدَّياجي تَصْبو مُهَرْوِلةً إلى كَنَفِ قلبِها.”
في هذه الرسائل، لا نقرأ حكاية حب تقليدية، بل نواجه كينونة عاشقة تقف على حافة الأسئلة: عن المصير، عن الوعي، وعن المعنى. تمامًا كما تفعل هناء في تشكيلها لأغلفة دواوينها، فهي لا تكتب فحسب، بل ترسم العشق، تُجسّده، وتُخرجه من الظل إلى الضوء.
هكذا، اسجَّل تجربتي كامتداد معاصر وأصيل لموروث عشق عربي ومغربي غنيّ، ببصمتي الخاصة، عشقٌ يعرف الحقيقة، ويحب رغمها، لا بسببها. ورموزها بعمق العشق عشق الخالق عشق الحياة عشق الإنسانية الحقة عشق الرجل عشق الذات عشق الإبداع عشق الكتابة عشق الفن .عشق الغرابة والتفرد ……حاملا مشعل الشمس والقمر بين جوارحه وأنامله المتدفقتين بالفيض مُلْهِما ومُلْهَما تارة بوجدان وتارة بنقد ابحر بنبض حروف على متن زورق الكلمة التي ضلت الطريق في قلبه احتوى عطر زمنه فصار من فرط عبقه ذهبي الزهر أقحوانا ترانيم حروفه تسابقت لتأسس للجمال تاجا على عرش قلبه طاول الشمس في حضوره غير آبه بنارها الحارقة حر صريح وتارة غامض مشفر برموز رسائل أرخها التاريخ بالمعاش الشجاع والوجدان المرهف بالحب والإنسانية رسائل عشق نحثت بأضافرها في براتن العتمة وبكل شجاعة مزيحة غبار الظلام بحروف من نور وبذور من يراع حتى تجلت الخصوبة من رماد. ولادة جديدة وعمق متجدد كسر الأبواب الموصدة وعبد الطريق لرحلة أبدية بكل أحزانها وأفراحها رسائل على أثير الجوارح أينما حلت نبت الزهر والحلم والإنسانية الحقة بالحب كهاجس أول و ليس الأخير غاب فيه الإستهلاك والسطحية والإبتذال وحل الأمل بوجوب طرح الأسئلة الصحيحة والإحساس بالقلق الإبداعي الذي يفترض أن يراود الموهوب الحق اتجاه أي كتابة شعرية صادقة الحدوس، مهوسة بالعشق في الإحساس مهوسة بالغرابة والإختلاف كجراح القلب في دقته أو مهندس المعمار في الهندسة أو المصلي في خشوعه دون الوصول إلى المرضية. رسائل من رحم العشق ديوان محفز قوي للذات للحب للحرية للإبداع للموهبة الحقيقية دون قيود بكل شجاعة وإصرار محاربا للسلبية بكل شراسة وإرادة مقوي للإيجابية كالصلاة شروق يومي متخشع ترافقه هواجس أكيد لأطياف وقوى المبدعة وتتخلله تساؤلات عن سوية وقيمة مايكتب وما يفكر فيه وما يحس به وبالتالي ما يفعل ويترجم على أرض الواقع لا راحة واطمئنان كلي ولا خوف مرضي. تقدم بخطوات ثابتة و تراجع بأخرى نية بساعة وعدل عن النية ساعة أخرى وكأن لعنة الموهبة تتبعه للتقصي منه محكوم عليه بحكم مأبد بالجمال والتعب الجميل فهو بالفطرة والمعرفة خائن للجهل والرتابة يدفعه الطرف الناقد من شخصيته إلى الإستبداد وعدم الرضا عن الطرف الآخر بالمقابل الطمأنينة والسكينة تلعب دور التناقض بين الفينة والأخرى وبالتالي الحياة. لقد عشت العِشق كرحلة داخلية، وكتبته ككشف وجودي. وها أنا أعود إليه بفكر متأمل، لأقول إن فلسفة العِشق ليست ترفًا، بل ضرورة، لأنها وحدها تمنح الإنسان القدرة على تجاوز العبث، وعلى صوغ معنى لحياته، وسط فوضى العالم.
خلاصة بين العشق والفلسفة وجهان لرحلة واحدة: رحلة الإنسان من الفوضى إلى المعنى، من الوحدة إلى التلاقي، من السطح إلى العمق. ولهذا السبب، كان أعظم العشّاق – في التاريخ – هم في الحقيقة فلاسفة، وأعظم الفلاسفة… كانوا عشّاقاً.. يبقى العِشق سؤالاً مفتوحًا، ودربًا نحو المطلق، وفضاءً تتعانق فيه الذات والآخر، الجسد والروح، الفن والفكر. ويبقى الشعر لغته الأسمى.
Hanae Mikou
بحث موثق بالأكاديمية الدولية للكتاب والمفكرين المثقفين العرب