بقلم نجوي نصر الدين في فجر الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، لم تكن القاهرة وحدها التي استيقظت على البيان الأول للثورة، بل استيقظت معه أحلام ملايين المصريين الذين أنهكتهم طبقات الإقطاع، وسرقت أصواتهم تحت ظل التاج. كانت الثورة، كما أرادها الضباط الأحرار، بيضاء بلا دماء، لكنها لم تكن بلا عزم. “لقد تآمرت الملكية على إرادة هذا الشعب”، هكذا جاء البيان الأول لجمال عبد الناصر ورفاقه، ليعلنوا ميلاد حقبة جديدة، بلا مستعمر ولا ملك. كانت ثورة بيضاء، لأنها اختارت الكرامة دون أن تُراق فيها الأرواح، ولأنها أرادت أن تعيد للوطن وجهه الحقيقي، لا أن تصنع وجها جديدًا يُشبه المستبدين. لم تكن ثورة يوليو مجرد انقلاب عسكري، كما يحاول البعض أن يصغرها، بل كانت فعلًا سياسيًا وطنيًا عميقًا، نتج عن احتقان طويل عاشته البلاد تحت التبعية والاستغلال. كانت الأرض تُوزَّع على حفنة من العائلات، بينما جياع الريف لا يملكون سوى جلدهم تحت الشمس. التعليم كان حكرًا، والمستقبل كان مرهونًا بنسب العائلات، لا بذكاء العقول. جاءت الثورة فكسرت تلك المعادلة الظالمة. جعلت الإصلاح الزراعي عنوانها الأول، ثم أعلنت نهاية الاحتلال البريطاني، وأطلقت مجانية التعليم، وفتحت أبواب الكليات لأبناء الفلاحين والعمال، لا لأبناء الباشوات فقط. بل إن مصر بعد يوليو صارت ملهمة لحركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن الثورة، ككل حراك كبير، لم تَسلم من التحديات. بين الحلم والواقع، وبين النوايا والممارسة، وقعت أخطاء. بعضها دفع ثمنه الوطن، وبعضها دفع ثمنه أبناء الثورة أنفسهم. إلا أن النية التي وُلدت بها الثورة كانت نقية: أن تضع الكرامة في موضعها، وتحرر الإنسان قبل أن تحرر الأرض. في ذكرى 23 يوليو، لا نحتفل فقط بانقلاب ملكي سلمي، بل نُحيي ذكرى لحظة قالت فيها مصر “لا” بصوت الضباط، لكنها كانت “لا” باسم الشعب. نُحيي ذكرى ميلاد جيل من القادة الذين آمنوا أن الوطن ليس ميراثًا بل أمانة. وما زال السؤال حيًّا: هل نحمل نحن الآن، بعد عقود، الأمانة كما حملوها؟ وهل لا تزال فينا شرارة الثورة البيضاء؟ تحياتي نجوى نصر الدين