في عالمنا المادي، كثيرًا ما يُختصر مفهوم “الإفلاس” في المال والثروات. فإذا فقد الإنسان ممتلكاته وأمواله، قيل عنه إنه مفلس، وانفض الناس من حوله، وانطفأت عند الكثيرين قيمته. لكن الحقيقة أعمق وأخطر، فهناك إفلاس من نوع آخر، لا يراه الناس بأعينهم، ولكنه أشد أثرًا وأعظم خطرًا، وهو الإفلاس الفكري والديني، الذي قد يجعل صاحبه منافقًا كذابًا، مخادعا متعدد الوجوه و هذا يقوده إلى الهلاك يوم القيامة.
الإفلاس في اللغة هو فقدان المال، أما في الاصطلاح الشرعي، فقد بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال *: _
> “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار.”*_ — رواه مسلم
هذا هو المفلس الحقيقي في ميزان الله: من ضيّع أخلاقه، وساءت معاملته، حتى أفسدت أعماله الصالحة.
الإفلاس الفكري… الوجه الآخر للنفاق وهذا ما نعاني منه لأن ضرره ليس على الفرد نفسه فقط بل على المجتمع
قد لا يخلو زمان من أناس يظهرون الحكمة والمعرفة، ولكنهم في الحقيقة مفلسون فكريًا. يتكلمون بما لا يفقهون، ويدّعون ما لا يعملون. هذا النوع من الإفلاس يُنتج شخصية منافقة، تُخفي ما لا تُبطن، وتكذب على الناس وعلى نفسها، فتزين الباطل وتُلبس الحق بالباطل و يتلونون مع المواقف .
إن الإفلاس الفكري لا يعني فقط الجهل، بل هو عجز عن التفكير النزيه، ورفض للحقيقة، وترديد للأفكار الزائفة دون وعي. وهذا أخطر من الجهل، لأنه يضلّل الآخرين تحت عباءة الثقافة والمعرفة.
المفلس الحقيقي يوم القيامة
إن أخطر ما في الإفلاس الأخلاقي والفكري، أنه يُفرّغ الدين من مقاصده، فيظن صاحبه أنه على خير، بينما هو في ضلال. فالصلاة والعبادة لا تُنجي إن لم تُثمر في السلوك. والكلمة إن لم تكن صادقة ومبنية على فهم وصدق، كانت وبالًا على صاحبها.
فالمفلس الحقيقي يوم القيامة ليس من خسر ماله، بل من خسر حسناته بسبب ظلمه للناس، وكذبه، ونفاقه، وسوء أخلاقه. وهذا تحذير رباني لكل من يُغشّ الناس بصورة مزيفة من التدين أو الثقافة أو النقاء. لذا اقول إن أخطر إفلاس يمكن أن يصيب الإنسان، هو أن يأتي إلى الله بلا رصيد من الصدق والخلق، مهما زعم من عبادة أو علم أو فكر. فكن صادقًا مع نفسك، واحرص على صفاء قلبك، واستقامة سلوكك، فذاك هو رأس المال الحقيقي.*