كتبت نجوى نصر الدين مابين الفكر والوجاهة حين يُختزل العلم في اللقب، ويُستبدل الفكر بالشعور تنتج أزمة في عالمٍ تتسارع فيه الأمم نحو الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الجينوم وسباق الفضاء، يعلو في أروقة كثير من جامعاتنا العربية همسٌ مريب: “كم دكتورًا خرجنا هذا العام؟”، “ما الذي غيّرته هذه الأبحاث في واقعنا؟”. مفارقة محزنة: أكثر من 200 ألف رسالة دكتوراه أُنتجت في العقود الثلاثة الماضية في الوطن العربي، ولكن حين تنظر إلى خارطة الاكتفاء الغذائي، أو مؤشرات البحث التطبيقي، أو حتى جودة التعليم، لا تكاد تجد أثرًا يوازي هذا العدد المهول. فأين يكمن الخلل؟ اللقب بدلًا من الرسالة تحوّلت شهادة الدكتوراه، في كثير من الأوساط، من ذروة فكرية تمثّل سنوات من البحث المضني والتفكير العميق، إلى بطاقة “وجاهة اجتماعية” يُفتتح بها الاسم في المناسبات، وتُطبع على بطاقات الدعوة، وتُضاف إلى التوقيع الإلكتروني، دون أن يُسأل حاملها: “ما الذي أضفته للمعرفة أو المجتمع؟”. الأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة لا تنفصل عن مناخٍ تعليمي بيروقراطي، جعل من الرسائل العلمية وثائق عبور وظيفي لا أدوات تفكير نقدي. فالطالب يتخرّج حريصًا على طباعة رسالته بخط أنيق أكثر من حرصه على إثارة سؤال جديد في مجاله غير أن ردّ الفعل المجتمعي على هذا الفراغ الأكاديمي لا يخلو هو الآخر من انحراف. ففي مقابل هذا الانفصال بين الشهادة والفائدة، نشأت موجة شعبوية تنظر إلى التعليم العالي بعين الشك، وتضع كل مفكر أو باحث في قفص الاتهام الأخلاقي أو الديني. فنسمع من يقول: “في الهند يعبدون البقر وهم عباقرة!” “فلان دكتور في الجامعة ويشكك في آيات الميراث!” “فما نفع العقول إن لم تُهتدِ؟” هذا الخطاب — على ما فيه من حرارة دينية وعاطفية يقع في مغالطة هى مقارنة القلب بالعقل كأنهما نقيضان، وتقديم الجهل المتدين كبديل للعلم المتسائل، بدلاً من الدعوة إلى العلم الإيماني، أو الإيمان العارف. بين القلب والعقل: كيف ننهض؟ العلم لا يُعارض الإيمان. والبحث لا يُضعف القلوب بل يغذيها، إن وُجّه بصدق. حين تُغذّى العقول بالمعرفة، وتُروى القلوب بالخشية، تنهض المجتمعات، ويتحوّل التعليم من سلّم ترقٍ اجتماعي إلى محرّك تغيير حضاري. ليس الحل أن نُهاجم من يبحث أو أن نمجّد من يجهل، بل إن علينا ترتيب المشهد: أن نطالب الجامعات بمشروعات ذات أثر حقيقي. أن نعيد تقييم نظم منح الدرجات العليا. وأن نعلّم أبناءنا أن الدكتوراه ليست تاجًا، بل تكليفًا إننا نعيش أزمة البحث العلمي ليست في نقص الأعداد، بل في غياب الأثر. وليست في ضعف القدرات الفردية، بل في غلبة الطابع البيروقراطي والرمزي على منظومة التعليم العالي. في المقابل، لا ينبغي لهذا الواقع أن يدفعنا إلى جلد النخب الأكاديمية أو تمجيد الجهل العاطفي ، بل أن نعيد تعريف العلم بوصفه التزامًا أخلاقيًا ومشروعًا حضاريًا، لا لقبًا إداريًا. قال تعالى: “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” والقلوب حين تعمى، يُختزل العلم في شكله لا في جوهره، وتُطفأ جذوة السؤال قبل أن تضيء. تحياتي نجوى نصر الدين