في احتفال بهيج أقيم بمعيّة عمدة القلمينا، الشاب الهُمام محمود صلاح، وحضره أعضاء هيئة التدريس وجمع غفير من الطلبة وأولياء أمورهم، تمّ قبل أيام حفل تكريم الزميل المحترم الأستاذ عبدالناصر عبدالراضي، (مدير مدرسة الشهيد هشام يونس الإعدادية بالقلمينا)، وذلك بعد 34 عاماً قضاها في رحاب التدريس والإدارة المدرسية، كان خلالها نموذجاً للكفاح والتفاني والإخلاص، فحصد من جرّاء ذلك محبّة واحترام وتقدير كلّ من تعامل معهم، رؤساء كانوا أو مرؤوسين. *** وُلد الأستاذ عبدالناصر عبدالراضي الضاوي سيد بالقلمينا في 15 نوفمبر 1963، وهو الابن الذّكَر الوحيد لوالديه الراحلين، وفور حصوله على شهادة الثانوية عام 1983، تمنّى الفتى – في قرارة نفسه – أن يلبس “البدلة الميري”، ويُصبح “حضرة الضابط”، لكنّ القدر كان له تصريف آخر، وبدلاً من الكلية الحربية، وزّعه مكتب التنسيق على كلية الزراعة بجامعة المنيا…!
لم تَرُق هذه الكلية له، فحوّل أوراقه إلى كلية آداب قنا؛ ليس حُبّاً فيها، ولكن أملاً في عدم التعيين مدرساً، لأنّه كان يطمح في السفر إلى الخارج، وهو ما استطاع أن يحققه وهو طالب بين السنتين الثالثة والرابعة بكلية الآداب، عندما استخرج جواز سفر طالب وقتها (بتكلفة 5 جنيهات!!)، وسافر مثل الكثيرين وقتها إلى العراق، وعاد (الطالب عبدالناصر) بالدولارات الخضراء، وسط دهشة أهله وأقرانه!! وهكذا كانت للقدر كلمته، فليس كل ما يتمنى المرء يدركه، ولكن؛ “مشيناها خطىً كُتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها”….
*** أنهى الشاب الطموح دراسته، بحصوله عام 1987 على ليسانس آداب قسم تاريخ، فعُيّن مدرساً بمدرسة حسني مبارك الإعدادية بالوقف، ومن ثم حصل على دبلوم تربوي عام 1990، ومع إنشاء مدرسة القلمينا الإعدادية عام 1993، كان من الكوادر الأساسية بها، برفقة زملائه وأصدقائه. ومع اندماجه بعمله مدرساً، قنع الشاب عبدالناصر بنصيبه، وألغى فكرة السفر، بعد أن أحسّ بأن مسؤوليته كابن وحيد عن رعاية والديه وإسعادهما بوجوده بينهما ونَيل رضاهما أفضل وأغلى من كنوز الدنيا كلها. في عام 1988، وقبل أن يتم “الأستاذ” عامَه الـ 25، تمنّى والداه أن يفرحا بابنهما الوحيد، فأكرمه الله بشريكة حياته الأصيلة، التي كانت له نعم العون والسند في رحلة كفاحه الطويلة بين متطلبات وظيفته والاهتمام بزراعة أرضه، معاوناً والده الراحل (الذي تقدّمت به السنّ وقتها)، ومتابعة أطفاله الصغار، والمتطلبات الاجتماعية المتعددة، ورغم كثرة الأعباء، فإنّ الرجل لم يقصّر في أيّ منها، وبرحيل والديه الكريمين – يرحمهما الله – كرّس جهده لرعاية أبنائه ومتابعة دراستهم وتفوّقهم.
*** في عام 2010 رُقّي إلى وظيفة وكيل للمدرسة، ومنها أصبح في عام 2015 مديراً لها حتى يوم أمس، 14 الجاري. 34 عاماً قضاها في رحاب مهنة أحبّها وأخلص لها، رغم أنّه يقول إنها “مهنة مُتعبة”، لا يحصل المرء منها على حقّه المناسب، لكنّه كان خلالها نعم المعلم المخلص والزميل النبيل لجميع مَن عمل معهم، يحاولون معاً الحفاظ على سَير العملية التعليمية بشكل مُرضٍ، ويحرصون على حل أي مشكلة بالود والتفاهم والكَياسة. وأشهدُ أن تعامُل الأستاذ عبدالناصر مع جميع الزملاء بالمدرسة كان قائماً دوماً على مزيج من الاحترام والتقدير المتبادل، ولم أشهده مرّة – خلال زياراتي للمدرسة – يخاطب أيّ زميل مهما كان فارق السنّ بينهما إلّا بعبارة “أستاذ فلان”، لكنّ الرّجل يشعرُ بامتنان شديد تجاه زميله السابق بالمدرسة ثروت تكلا حبيب، والزميل المحترم الأستاذ محمود حباشي. *** خلال هذه الرحلة الطويلة، كانت له وقفات مع شخصيات يرى أنّ لها بصماتٍ لا تُنسى في حياته؛ إذ يقول إن تأثّر كثيراً بأول مدير مدرسة عمل معه، في بداية حياته العملية، وهو أستاذنا الكريم نبيل أحمد حسن السنبسي، (بارك الله في عمره)، أمّا الأستاذ الذي قال لي إنّ له فضلاً كبيراً عليه، ويشعر نحوه باحترام وتقدير كبيرين، فهو الأستاذ إسماعيل عراقي، أطال الله عمره، وتبقى الشخصية التي يعتبرها مثلُه الأعلى وقدوته ممثّلةً في أستاذ الأجيال الراحل خلف الله محمد مرزوق، طيّب الله ثراه. أما على مستوى المجتمع التعليمي، فتربطه علاقات مودّة وصداقة وإعزاز كبير مع الأساتذة علي عيطا، الذي يعتيره الأقرب إلى قلبه، ثم أحمد فاوي، وعبدالرازق سيد، ومحمد عبدالحميد…. والقائمة تطوووول. *** عندما سألتُه عمّن لا ينساهم من تلاميذه، قال على الفور: منصور كامل، (الإعلامي والصحافي النّابه بالقاهرة)، والمهندس أيمن يوسف النجار، فضلاً عن الكثيرين ممّن لا يتّسع المقام لذكرهم. خلال 8 سنوات شهدت المدرسة – خصوصاً بعد انتقال “القلمينا الثانوية” إلى مقرّها الجديد – توسعاتٍ وتنوعاً في فصول الأنشطة المدرسية، وصعدت جماعات الإذاعة والصحافة المدرسية والتربية الاجتماعية إلى مراكز متقدّمة في مسابقات على مستوى مديرية قنا التعليمية، فضلاً عن المشاركة والفوز في مسابقات أوائل الطلبة، كما حصد الطالب محمد رمضان علي عبدالمحسن المركز الثالث على مستوى الجمهورية في مسابقة الجري عام 2020. *** أخلص الرجل في عمله، وبذلَ كل جهده ووقته بلا قصور ولا تقصير، فبارك الله له في أبنائه (التقاوي)، حيث حصل الابن الأكبر محمد على بكالوريوس هندسة كهرباء عام 2010 من جامعة أسيوط، (ويعمل بالرياض حالياً)، ومن الجامعة نفسها تخرّج شقيقه أحمد بكلية الطب، ويعمل طبيبا لجراحات القلب بها. أمّا محمود، فحصل على بكالوريوس تجارة إنجليزي، ويعمل بالقاهرة، في حين حصلت داليا على بكالوريوس تربية نوعية بتقدير جيد جيداً مع مرتبة الشَّرف. بارك الله في عمر أخينا المحترم، وفي أهله وذريته، وكتب له الخير كله في حياته الجديدة…. شباب ما بعد الستين…..