كتبت نجوى نصر الدين حينما تصير التفاهة نظامًا عامًا في زمن تتآكل فيه المعايير، وتُختزل فيه القيم في أرقام الحسابات البنكية، يبدو أن الرداءة لم تعد استثناء، بل تحوّلت إلى قاعدة متينة يبنى عليها المشهد العام. لقد بات بإمكان من جمع ثروته من تجارة المخدرات، أو من صفقات مشبوهة، أن يغسل أمواله في مستشفى، أو يبني بها جامعة خاصة، أو يفتتح شركة كبرى يوظف فيها أصحاب الكفاءات الحقيقية. وهكذا، يتحوّل من مجرم إلى “رجل أعمال”، ومن نكرة إلى “شخصية اعتبارية” تُستقبل على السجاد الأحمر، وتُمنح منابر الحديث باسم الوطن والمجتمع، وربما تُستشار في صياغة السياسات. هذه الحالة لا تعكس فقط فسادًا اقتصاديًا، بل تشير إلى أزمة قيم عميقة. فحين يصبح المال — لا الأخلاق ولا الكفاءة — هو المعيار الوحيد للقبول والاحترام، فإن المجتمع بأسره يدخل نفقًا مظلمًا من التزييف والتواطؤ. والأسوأ من ذلك، أن التفاهة حين تحكم، فإنها لا تكتفي بالسيطرة على المال والسلطة، بل تمتد لتوجيه الثقافة نفسها. فالإعلام يتحوّل إلى أداة لتلميع الوجوه الفاسدة، والتعليم يُفرّغ من مضمونه، والمشهد الثقافي يُختصر في صورة أو فيديو سريع، يُثير الضحك أو الجدل، لكنه لا يُنتج معرفة، ولا يطرح سؤالاً. لقد أصبحت الصورة، لا الكلمة، هي وسيلة التفكير. والمشهد اللحظي حلّ محل التأمل. الكتابة أضحت غريبة في هذا الزمن، والكلمات تُطارد ولا تجد مأوى، لأن المتلقي نفسه صار يفتقد القدرة على التلقي العميق. في ظل هذه الهيمنة، تُعاد برمجة الوعي الجمعي: الطيبة تُفهم على أنها سذاجة، والنزاهة غباء، أما الخبث والانتهازية فهما “ذكاء اجتماعي” يُدرَّس ضمنيًا. هكذا، يتم التطبيع الكامل مع الفساد، ويغدو المنحرف هو القائد، وتُصبح القيم الحقيقية محل سخرية أو إقصاء. ما يحدث ليس مجرد انحراف عرضي، بل هو تأسيس لنظام متكامل من الرداءة، يُنتج نفسه عبر الإعلام والتعليم والثقافة والسياسة، ويعيد تدوير التافهين في مواقع القرار والتأثير. ورغم هذا المشهد القاتم، يظل الأمل معقودًا على من لم ينكسروا بعد. أولئك الذين ما زالوا يكتبون، يربّون، يدرّسون، ويؤمنون بأن المعنى لا يموت. صحيح أن التفاهة انتصرت مؤقتًا، لكنها لا تبني حضارة، ولا تكتب تاريخًا. وحده الوعي، وإن تأخر، يملك قدرة الانتصار الحقيقي. تحياتي نجوى نصر الدين