صعد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على سلم الطائرة الرئاسية، عائداً إلى بلاده، بعدما أنهى زيارته الرسمية إلى القاهرة، وانطلقت الطائرة في طريق العودة، فنظر من نافذتها، ليرى الطائرات الرافال، التابعة للقوات المسلحة المصرية، يقودها الطيارين المصريين، وهي تحلق من حوله، لتؤمن خروجه من الأجواء المصرية.
وفوق مياه البحر المتوسط، دخل عليه قائد طائرته الرئاسية، ليبلغه بأن قائد سرب الطائرات المصرية يستأذن في المغادرة، لأن الطائرة الفرنسية أوشكت على الخروج من المجال الجوي المصري، فنظر الرئيس ماكرون من نافذة الطائرة، مرة أخرى، ليرى سرب الطائرات الرافال المصرية، وهي تلوح بجناحيها، إشارة لتأدية التحية للرئيس الفرنسي، وطلباً بالإذن في المغادرة، ليصل الرئيس الفرنسي بذلك لآخر مراحل زيارته الرسمية إلى مصر. وأجدني أتصور الرئيس ماكرون يرجع بظهره للوراء، يسند رأسه على مقعده، بينما يصيح بالفرنسية قائلاً، “oh mon dieu”، وتعني بالعربية “يا إلهي”، انبهاراً برحلته التاريخية التي أنهاها لتوه إلى مصر.
والحقيقة أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد خطط لتلك الزيارة بدقة شديدة، واهتم بكل تفاصيلها، إدراكاً منه لقيمة وأهمية تلك الزيارة لرئيس فرنسا، التي جاءت منها حملة نابليون إلى مصر، وفكت طلاسم اللغة المصرية القديمة، بواسطة الجندي بيير فرانسواه بوشاد، الذي اكتشف حجر رشيد عام ١٧٩٩، ليتمكن العالم الفرنسي شامبليون من قراءة اللغة الهيروغلافية والقبطية القديمة على الحجر الأثري، الذي كان سبباً في قراءة التاريخ الفرعوني القديم، والتعرف على بعض من أسراره وعجائبه، التي لازلنا ننهل منها دواعي الفخر.
فقد ظهر حسن، ودقة، التخطيط للزيارة فيما حملته كل محطة منها من هدف ورسالة، ففي رأي الجميع، أن أهم المحطات كانت زيارة منطقة خان الخليلي، في قلب القاهرة التاريخية، والتي أخبره خلالها الرئيس السيسي أنه وُلد، ونشأ فيها، وبها قضى حياته، بين المسلمين والأقباط واليهود، وعاشوا معاً كأسرة واحدة، لا تعرف التعصب، فكانت تلك أول رسالة يتلقاها الرئيس ماكرون، وسينقلها، بالتأكيد لكل دول الاتحاد الأوروبي، أن الرئيس المصري جاء من وسط هذا الشعب.
وتابع العالم اللقطة التاريخية للزعيمان، وهما يتجولان سيراً على الأقدام في أسواق خان الخليلي، بين ترحيب الأهالي وأصحاب المحلات، بالرئيسان، اللذان علت وجههما الفرحة والابتسامات، ليشهد العالم بالأمن والأمان اللذان تنعم بهما مصر. وقد ذكرني هذا المشهد بيوم زيارة الرئيس الأمريكي لمصر، بعد توقيع اتفاقية السلام، عندما نظم له الرئيس السادات موكب شعبي، خرج من مطار القاهرة إلى قصر القبة، في سيارة مكشوفة، يحيط به آلاف المصريين، يلوحون للرئيس الأمريكي والرئيس المصري أنور السادات. ويومها قال البعض للرئيس الأمريكي، أن الرئيس السادات قد جمع له كل هؤلاء بالأمر، فرد عليهم الرئيس الأمريكي، أنه لو صدق كلامهم، فكيف أمرهم بوضع تلك البسمات الصادقة فوق آلاف الوجوه.
أعتقد أن هذا ما لمسه الرئيس الفرنسي من فرحة المصريين بالرئيس السيسي، وضيفه، وتهافتهم على التصوير معهما، فلا أظن أن الرئيس ماكرون قد رأى حشداً شعبياً مثل هذا، في حياته، ولا حتى في فرنسا، يندفع فيه أبناء الشعب للترحيب بالرئيس، وضيفه، كل يحمل على وجهه ابتسامات صادقة، تنم عن مشاعر طيبة، عبروا عنها بهتافهم “بنحبك يا ريس … بنحبك يا سيسي”، وهو ما نقلته للرئيس الفرنسي المترجمة المصاحبة له.
كل ذلك تذكره الرئيس ماكرون وهو ينظر من نافذه الطائرة، والطائرات الرافال المصرية تلوح له بجناحيها، في وداعه، وكأنه يقول لنفسه ما هذا الشعب العظيم الذي يلتف حول رئيسه بكل هذا الحب. فرغم ما يصله من تقارير مكتوبة، عما تمر به مصر من ضائقة اقتصادية، تنعكس آثارها على عموم المصريين، من تضخم وبطالة وارتفاع أسعار، إلا أن ما رآه على أرض الواقع، عجزت التقارير عن تدوينه ونقله. والحقيقة، أن هذا هو الشعب المصري، وتلك طبيعته السمحة، وأخلاقه الكريمة،وعرقه الطيب، خاصة إن ما زاره ضيفاً، وقد رآه الرئيس ماكرون على طبيعته، في جولته بينهم في المناطق الشعبية.
ومن ضمن حكمة التخطيط للزيارة، أن الرئيس السيسي قام بدعوة ملك الأردن لمصر، لعقد قمة ثلاثية، أكد خلالها على توحيد الرؤى بشأن ضرورة إيجاد حلاً سلمياً لإنهاء القضية الفلسطينية، مع التأكيد للعالم برفض مصر والأردن لترحيل الفلسطنيين من وطنهم إلى سيناء والأردن، وهو ما أكدته القرارات الصادرة عن القمة الثلاثية بين مصر وفرنسا والأردن. كما أعربت عنه المكالمة الهاتفية من الرئيس ترامب للقادة الثلاثة، من أن مصر كانت، ومازلت، وستبقى دائماً، هي أساس الحل لأي مشكلة في الشرق الأوسط.
لقد نجح الرئيس المصري، بجدارة، في إدارة هذه الزيارة التاريخية، والشكر موصول لكل من قام على تنظيم تفاصيلها، والشكر الأكبر مستحق لهذا الشعب الأصيل، وأهالي منطقة الحسين، الذين قدموا أجمل صورة للشعب المصري، جعلت الرئيس الفرنسي يكرر صياحه “يا إلهي على عظمة هذا الشعب”. وعلى صعيد آخر، فقد حققت هذه الزيارة، مكسباً غير مباشر، على المستوى العالمي، من خلال المواقع الإخبارية، وهو الدعاية السياحية الكبيرة لمصر، إذ أظهرتها على حقيقتها كبلد آمنة، وجميلة، ومستقرة، وتفتح ذراعيها لاستقبال جميع زوارها من مختلف بلاد العالم، لينعموا فيها بوجبة تاريخية، وحضارية، وترفيهية دسمة، لا مثيل لها في أي مكان في العالم.