“الشعر كصرخة وجودية بين الهو والأنا الأعلى في مواجهة القيود الاجتماعية “قراءة نفسية، اجتماعية، وفلسفية في قصيدة “وتلك كل المسألة” — أحلام بن حورية د/آمال بوحرب باحثة وناقدة تُعدّ قصيدة «وتلك كل المسألة» للشاعرة التونسية أحلام بن حورية لوحة شعرية نابضة بالصراع الإنساني بين القيود المفروضة والرغبة الدفينة في التحرّر. عبر صور رمزية دقيقة وإيقاع تكراري يعكس التوتر الداخلي بين الألم والأمل، ترسم الشاعرة ملامح روح تواجه القهر الاجتماعي وتبحث عن الانبعاث من رماد الخذلان. هذا النص لا يقدّم نفسه مجرّد بوح ذاتي، بل يتحوّل إلى خطاب فلسفي وإنساني عميق يتجاوز حدود الأنا ليعانق القضايا الكبرى المتعلقة بالحرية، الهوية، والمعنى. نص القصيدة: “وتلك كل المسألة” — أحلام بن حورية 1بين أضالع المدينة وأحضان الآلهة وتلك العيون الحالمة ورياش الأحلام الهائمة في تفاصيل الخطى والأسوار والأرصفة تتعتق الأبجدية وتنبعث عنقاؤها بأبراج كل المدن فتنبت شمس غاوية وتكبر سماء وسيعة في الخيال وتلك كل المسألة..
2ذا الليل الذي يخبّئ في جيوبه غيماتٍ وأغنيات وحين تدسّين يدكِ في أحدها يتكلم لا لينهركِ ولا ليمنعكِ ولكن ليعطيَكِ ما تريدين دون ضوضاء ولا دغدغة وتلك كل المسألة.. 3 هي صرخة كتبتها صحائف الأيام والأعوام وترمّلت على كتفيها الألسن ماذا تراها تقول وهي صادحة وقد حملتها أصداء قبيلة فرشت كلامها على الحصائر وتربعت وسط المآسي ثم طبعت بدموعها عنوانًا آخر لكتابها فلا تتعجبي ولا تحزني فتلك كل المسألة.. 4 أنتِ المدينة وجوفكِ ثائر الليل في قلبكِ مكسور برمّته ونهر الذل حول خواصركِ طمي بلا صدف فارمي شباكَكِ على كتفِ الأمل ومرّي بجانب الخزي ولا تقفي كوني صرخة الأحرار في أصباحنا فأنتِ فيروزة القدس وكل المدن وتلك كل المسألة.. تأتي هذه القراءة لتحليل القصيدة من خلال أبعادها النفسية، الوجودية والاجتماعية، مع مقاربتها بآراء فلسفية وأدبية للذين تناولوا هذه الثنائيات في مشروعهم الفكري أبعاد القصيدة أولًا: البعد النفسي :صراع الذات بين الكبت والانعتاق تتكشّف في القصيدة أصداء الصراع النفسي بين الرغبة العميقة في التحرّر والضغوط الخارجية التي تكبّل الروح. تقول الشاعرة: «بين أضالع المدينة وأحضان الآلهة» وهو تصوير مكثّف للتمزق بين القيود التي تفرضها البيئة الحضرية (رمز الانغلاق والكبت) والبحث عن الحماية أو المطلق (أحضان الآلهة). هذا التوتر يستدعي نظرية الصراع الداخلي عند سيغموند فرويد بين الهو، الأنا، والأنا الأعلى، حيث تصارع الذات ميولها الطبيعية ورغباتها المكبوتة أمام سلطة المجتمع. كما تحضر صورة «العنقاء» كرمز لآلية الإعلاء النفسي حيث يتحوّل الألم الداخلي إلى إبداع شعري، وهي آلية دفاعية تُحوّل المعاناة إلى طاقة خلاقة. في مشهد الليل الذي «يخبّئ غيمات وأغنيات»، نلمس تجسيدًا لما وصفه كارل يونغ باللاوعي الجمعي، حيث تختزن الذاكرة البشرية رموزًا وأحلامًا تعود لتُولد من جديد عبر الكتابة الشعرية. ثانيًا: البعد الوجودي :مواجهة العبث وصناعة المعنى تتجلّى في القصيدة أسئلة وجودية ملحة تتعلق بالمعنى والحرية تقول الشاعرة: «هي صرخة كتبتها صحائف الأيام» وفي هذه الكلمات تعبير يحمل أصداء فلسفة ألبير كامو في أسطورة سيزيف، حيث الإنسان مدفوع إلى مواجهة عبثية الحياة بصمت وكبرياء، محاولًا صياغة معنى شخصي من الفوضى كذلك، يتردد في النص صدى فلسفة جان بول سارتر، الذي يرى أن «الإنسان ليس سوى ما يصنعه من نفسه»، ما يجعل الصرخة هنا فعل خلق لا استسلام. أما التكرار الموزون لعبارة «وتلك كل المسألة» في نهاية كل مقطع، فيوازي حالة القلق الوجودي التي وصفها هايدغر بأنها لحظة وعي الذات بفنائها، مما يحفّزها على صياغة مشروعها الخاص في الوجود. إلى جانب ذلك، تستحضر صورة العنقاء الفكر النيتشوي، حيث الفوضى الداخلية تُفضي إلى ولادة جديدة: «يجب أن تحمل في قلبك فوضى لتلد نجمًا راقصًا»، كما قال نيتشه في هكذا تكلم زرادشت.
ثالثًا: البعد الاجتماعي : التمرّد على القيد ومقاومة وصاية الجماعة تُقدّم الشاعرة صورة مكثّفة للواقع الاجتماعي الذي يقمع الفرد ويقيّده بالعار والخضوع. «نهر الذل» هو استعارة للضغوط الاجتماعية المماثلة لآليات السلطة التي وصفها ميشيل فوكو في المراقبة والمعاقبة، حيث يتحوّل المجتمع إلى نظام من الرقابة اليومية يقيّد الجسد والفكر معًا فتقول «أنتِ المدينة وجوفكِ ثائر ونهر الذل حول خواصركِ» تدعو الذات — لا سيما المرأة — إلى التحرّر من قبضة الأعراف والتقاليد، وهو موقف ينسجم مع دعوة جون ستيوارت ميل في عن الحرية إلى رفض وصاية الجماعة وتمجيد حق الفرد في اختيار مساره. كما أن هذا التمرّد الأنثوي يجد صداه في كتابات نوال السعداوي، التي طالما أكدت أن الكتابة النسائية هي فعل مقاومة مستمر ضد القيود المفروضة على الجسد والعقل معًا.
الأسلوب الفني والرمزية :بين الطقس الشعري والموقف الفلسفي يأتي الأسلوب في هذه القصيدة مبنيًا على وحدة عضوية متماسكة بين الصورة الرمزية والإيقاع الداخلي. فالرموز مثل «العنقاء» و«الليل» و«المدينة» لا تُستخدم هنا بوصفها زينة شعرية، بل أدوات فكرية تحمل عمقًا تأويليًا يُفعّل في ذهن القارئ سلسلة من الإحالات الثقافية والدينية. العنقاء ليست مجرد رمز أسطوري، بل تجسيد حقيقي لقوة التجدد والخلاص الداخلي. أما “المدينة”تتخذ هيئة مزدوجة: فهي مكان القمع ومجال الثورة، تعبر عن ثنائية الذات المقهورة والذات المتمرّدة. و«الليل» يحمل طبقات من الدلالات: الغموض، الحلم، والانبعاث من صمت العتمة. الإيقاع التكراري الذي يُختتم به كل مقطع بـ«وتلك كل المسألة» لا يكتفي بأن يكون عنصراً موسيقيًّا، بل يتحوّل إلى ما يشبه الطقس الروحي، حيث يكرّر الشاعرُ الجملة كتأكيد على الإيمان العميق بالموقف الوجودي. هذا البناء الإيقاعي يقارب أسلوب جلال الدين الرومي الذي جعل من التكرار وسيلة للوصول إلى الصفاء الداخلي، كما يتماهى مع تجربة محمود درويش الذي حوّل التكرار في شعره إلى ترسيخ لفعل المقاومة وتثبيت لذاكرة لا تقبل النسيان.