لواء دكتور/ سمير فرج متابعة عادل شلبى كل الإنتماء مع كل الإخلاص والوفاء والتضحية من أجل مصرنا وكل الوطن من لندن الى اليمن الى باريس وبينما نحتفل هذه الأيام بمرور 50 عامًا على وفاة كوكب الشرق، أم كلثوم، أود أن أتذكر أول مرة عرفت فيها أم كلثوم، حين كنت طفلًا صغيرًا. كانت والدتي تنتظر الخميس الأول من كل شهر، عندما كان والدي يسافر مع أصدقائه إلى القاهرة لحضور حفلاتها الشهرية، وتظل مستيقظة طوال الليل حتى يعود والدي وأصدقاؤه من القاهرة. وتعددت لقاءاتي عن بُعد مع كوكب الشرق، وأتذكر يوم وفاتها جيدًا. كنت حينها طالبًا في كلية كامبرلي الملكية في إنجلترا، وكنا دائما نخصص الساعة الأولى من اليوم الدراسي لمناقشة أهم الأحداث العالمية. دخل المدرس يومها قائلًا: “سمير فرج، ماذا يحدث في مصر؟ جميع صحف إنجلترا اليوم تتحدث عن وفاة أم كلثوم!” وأضاف قائلًا: “هذه هي المرة الأولى التي نعرف فيها مدى تأثيرها في العالم العربي. وجاء أولى لقاءاتي مع ام كالثوم حين فاجأني أحد أصدقاء عائلتي، من المقيمين بالقاهرة، بدعوتى لحضور حفل أم كلثوم، على مسرح سينما قصر النيل فى القاهرة، فكانت تلك واحدة من أجمل مفاجآت حياتي. اليوم يتحقق حلم طفولتي، الذى لطالما داعب خيالى وأنا طفل صغير فى بورسعيد، كم تمنيت أن أراها رأى العين، بحضور إحدى حفلاتها، كم تمنيت ألا أكتفى بالاستماع إليها فى الراديو. كم تمنيت أن أرى بعيني، ما كنت أسمع عنه دوماً من أبي، عن روعة حفلاتها، وأناقة الحضور، الذين يرتدون أحلى ثيابهم، لحضور أهم حدث فنى فى الوطن العربي، كانت روائح برفانات السيدات والرجال، تستقبلك على الباب الخارجى للحفل، وكانت أناقتهم تضاهى أحدث صيحات الموضة فى أوروبا، وتنظيم الحفل يتفوق على أى احتفال موسيقى عالمي. اتخذنا مقاعدنا فى منتصف القاعة، تقريباً، وانفرج الستار، وظهرت كوكب الشرق، غاية فى الأناقة والوقار، كعادتها، وحيت الجمهور، الذى تعالى تصفيقه، لمدة لا تقل عن خمس دقائق، كانت كفيلة بأن تؤكد لى أن ما أعيشه، واقعً وليس خيالا!. شدت كوكب الشرق بأولى أغانيها، فى تلك الليلة، أنساك، تلحين الملحن الشاب، آنذاك، بليغ حمدي، وفى كل مرة تكرر مقطع «كان لك معايا.. أجمل حكاية فى العمر كله، كانت سيدة في العشرينات من عمرها، تجلس أمامي، تدخل فى نوبة بكاء شديد، فتحاول والدتها، الجالسة بجوارها، مواساتها بكلمات حانية، كفاية عياط.. عمر العياط ما هيرجعه. وازداد بكاء الشابة الصغيرة، مع كلمات الأغنية، سنين ومرت زى الثوانى فى حبك أنت، ولم تفلح محاولات الأم لتهدئة ابنتها المكلومة، التى بدا أن ارتداءهما السواد، ليس نابعاً من أناقتهما، فحسب، ولكن لحزنهما على فقيد غال. وانتهت الوصلة الأولى، ولم تعد هذه الشابة، أو والدتها، لاستكمال الوصلة الثانية من الحفل. ومنذ ذلك اليوم، ارتبطت أغنية أنساك» لدي، بمعنى الوفاء، وفى كل مرة أسمعها، أتذكر وجه هذه الأرملة الصغيرة. وكان من ضمن ما غنت أم كلثوم، فى هذه الليلة، واحدة من أحب الأغانى لقلبي، وهى جددت حبك ليه، من كلمات أحمد رامي، والتى عرفت السبب وراءها، بعد ذلك الحفل بسنوات، خلال رحلتى مع الوفد المصري، لحضور الأسبوع الثقافى المصرى فى الصين، وخلال حديثى مع صديقى الدكتور فوزى فهمي، عميد أكاديمية الفنون، عن حبى لتلك الأغنية، حكى لى أن الشاعر الكبير أحمد رامي، كان متيماً بحب الآنسة أم كلثوم، بينما أعلنت هى خطبتها إلى شريف باشا صبري، خال الملك فاروق، إلا أن الأسرة المالكة، ثارت لذلك الخبر، رافضة أن ينضم للبلاط الملكى واحدة من عامة الشعب، واضطر الملك فاروق إلى رفض الزيجة، فكتب أحمد رامى هذه الأغنية، وأحببتها أكثر وأكثر، بعدما عرفت أن كاتبها عبر عن مشاعره فيها، ولم يعتمد، فقط، على ملكة نظم الشعر التى حباه الله بها. أما الأغنية الثالثة، فكانت أنت عمري، والتى كنت أعشقها حتى ارتبطت فى وجدانى بذكرى أليمة على نفسي، فلم أقو على سماعها منذ ذلك الحين. تعود القصة إلى تخرجى فى الكلية الحربية، ضابطاً صغيراً، لأنضم، فوراً، لصفوف القوات المصرية المحاربة فى اليمن. وبوصولى إلى صنعاء، تلقينا أوامر بتحرك الكتيبة لمنطقة اسمها بيت السيد، لفتح الطريق للقوات المصرية المحاصرة هناك. ووصلنا صباح يوم خميس، وبدأ الاستعداد للهجوم، ومع آخر ضوء للنهار، كُلفت بقيادة فصيلة، مكونة من خمسين جندى مشاة ومدافع الدعم، لاعتلاء قمة التبة السوداء ونجحت فى مهمتي، ونشرت جنودى فى مواقعهم. إلا أن العواصف الثلجية فى تلك الليلة، جعلتنا محاصرين على قمة الجبل. وأغلقت جهاز اللاسلكي، حتى لا تنفد بطارياته، لأننا لا نعلم متى سيأتينا الدعم والامداد. والتففنا حول الراديو الويلكو الصغير، الذى اشتريته من صنعاء، فور وصولى إليها. ونجحنا فى التقاط موجات القاهرة، التى كانت ساهرة فى تلك الليلة، تترقب أنت عمري… لقاء السحاب بين صوت كوكب الشرق، وألحان موسيقار الأجيال، عبد الوهاب، وجاء صوت المذيع جلال معوض، يصف أجواء تلك الليلة الجميلة، التى تعيشها مصر، والعالم العربي، مع أجمل أغانى العصر، بينما نحن عالقون فوق جبال اليمن. فصارت، تلك الأغنية الرائعة، للأسف، تجلب إلى نفسى ذكريات أليمة، من حرب، وحصار، واستشهاد جنودي، وهى أسوأ لحظات تمر على أى مقاتل. لذلك أتذكر خلال وجودي في دار الأوبرا أنني كنت أرفض دائما حضور أي حفلة للموسيقى العربية يتم غناء فيها أغنية انت عمري لأنها كانت تذكرني بذكرى أليمة في حياتي ورغم مرور خمسين عاما على وفاتها الا إنها ستظل الفنانة التي وحدت العالم العربي كله حتى الان. وأتذكر أن المعهد العربي في باريس قرر إقامة ليالي أم كلثوم في حفلات للجالية العربية في فرنسا، على أن تتولى دار الأوبرا المصرية تنظيمها. وبالفعل، سافرنا إلى باريس لمدة أسبوع واحد، برفقة الفرقة الموسيقية، وشباب الغناء في دار الأوبرا، ومعنا الراحل جمال سلامة. خلال هذه الفترة، اهتزت باريس بأصداء حفلات دار الأوبرا المصرية في ذكرى أم كلثوم، ولم يكن الحضور مقتصرًا على العرب المقيمين في باريس فقط، بل جاءوا من كل أنحاء فرنسا، بل وتعدى الأمر إلى العرب المقيمين في بلجيكا، وألمانيا، وهولندا. بسبب الإقبال الكبير، طلبت إدارة المعهد العربي في باريس تمديد الفعاليات إلى عشرة أيام، نظرًا للضغط الكبير على حجز التذاكر، لكن للأسف، لم يكن ذلك ممكنًا بسبب التزامات فرق دار الأوبرا المصرية ببرنامجها في القاهرة. في ذلك اليوم، شعرت أن أم كلثوم لم توحد العرب من الخليج إلى المحيط فقط، في الخميس الأول من كل شهر، بل وحّدتهم أيضًا في قلب أوروبا. وبعد 50 عامًا على رحيلها، ما زالت أم كلثوم أيقونة الغناء في العالم العربى والمثال الذى مازال نابضآ الى اليوم بكل حب وإخلاص ووفاء لهذا الوطن الحبيب الى قلوبنا جميعاً كمصريين وعرب فى كل الوطن