لستُ من أولئك الذين ينقّبون في الرماد بحثًا عن جمرٍ قديم، ولا ممن ينسجون من الخذلان عباءة يرتدونها في ليالي الحنين. حين يجرحني أحد، لا أقف عند الجرح طويلًا، لا أعدّ الندوب، ولا أستنطق الألم. لا ألملم الشظايا لأعيد تشكيل صورة لا تستحق الترميم.
أنا كالريح التي تعبر المدن ولا تعود ، لستُ شجرة تتوسل بظلها للعابرين، ولا صفحة بيضاء يتسخها حبر الإساءة ثم تبقى شاهدةً على ما كان. أنا أمضي… وأترك خلفي ما لا يليق. لا أبحث عن العدالة في قلوب لا تعرف سوى الطعن، ولا أطالب أحدًا بأن يكون ملاكًا، فقط أن يكون إنسانًا، أن يعي أن الكلمة سهم، والخذلان سكين، والصمت في حضرة الجريمة إثم.
لكنني حين أُخذل، لا أقتصّ. لا أرفع راية الحرب، لا أكتب رسائل العتاب، لا أنسج الحكايات الحزينة. أكتفي بأن أنفض الغبار عن روحي وأرحل. أرفع رأسي عاليًا، لا لأنني لم أُجرَح، بل لأن الجرح لم يستطع أن يحني قامتي. أنظر إلى الأمام، لا لأنني نسيت، بل لأنني اخترتُ ألا أحمل الموتى على ظهري، فبعض الخيبات قبور، وبعض الوجوه أوهام، وبعض العلاقات أوهى من بيت العنكبوت.
لا ألتفت كثيرًا، ليس ضعفًا، بل لأنني أقوى من أن يُثقلني الغدر، أن يطاردني الظل، أن أبقى أسيرة خطأ لم يكن خطئي. الحياة قصيرة، والعمر لا يكفي لحزم الأمتعة والوقوف طويلاً على عتبات الذين لم يعرفوا قيمتنا. أمضي، لأن الأمام دائمًا أوسع من الخلف، لأن الشمس لا تشرق مرتين في اليوم ذاته، ولأنني أعلم أن ما ينتظرني هناك… أكثر نقاءً، وأكثر استحقاقًا لقلبي الذي لا يخون نفسه.