بقلم د/آمال بوحرب
الأنية والبنية الفكرية :
الأنية هي مفهوم يشير إلى التجربة الذاتية والفردية للشاعر تعكس الأنية مشاعر الشاعر وأفكاره وهويته، مما يجعل النص الشعري تجسيدًا لتجربته الشخصية وعالمه الداخلي. هذه الأنية تُظهر كيف يتفاعل الشاعر مع العالم من حوله، وتُبرز الصراعات والتوترات النفسية التي يعيشها وتكون عبر آليات وتقنيات مختلفة منها ولعلي هنا أذكر البعض من الأمثلة على سبيل الذكر وليس الحصر الشاعر “محمود درويش” اذ يعتبر من أبرز الشعراء العرب الذين تناولوا الأنية في شعرهم، حيث عكست قصائده تجاربه الشخصية والهوية الفلسطينية.
وايليا ابو ماضي او”فاروق شوشة ” والقائمة تطول
ومن خلالها نرى أن التجسيد البصري او دمج النص الشعري مع العناصر يثري التفاعل بين جميع الفنون اذ يمكن دمج الشعر مع الموسيقى أو الرقص، حيث يمكن لكل فن أن يُعبر عن الأنية بطريقة مختلفة، مما يخلق تناغماً فنياً متكاملاً وباستخدام هذه الأساليب، يمكن للفنانين نقل الأنية الشعرية بشكل مؤثر، مما يعزز من عمق التجربة الفنية ويشجع على التواصل الإنساني فكيف طرحت هذه التجربة وكيف وظفت الشاعرة “نعيمة مناعي ” العواطف والتجريد والابتكار في قصيدتها “أنا الشاعرة “؟
هذه القصيدة :
أنا الشاعرة
أنا يا سيدي القاضي من ادعى ..
من اعتلى الركح ،شدوا وإلقاء
فهل كذب كل من استمتع فصفق
أم صدق خيرة من نججم و انتقى
أنا الشاعرة أنا الهيام والإلهام
أنا الغزل القباني و شفرة الرثاء
أنا لحبال الوصل خنساء
وحفيدة المتنبي أنفة وكبرياء
أنا البون والبيان والنوى
والقصيد غائر المحتوى
أنا العروض الكامن وما ارتوى
وعازف الناي في البراري ما خبا
أنا الشاعرة :
وقد ماهيت الفراش ، حرة سامقة
تلتقطها الأضواء والحرف منها سارية
نزلت سيدي القاضي ،فانتبهت :
إن السارق، قد سرق مني نشوتي …
سحب بريق صحوتي ولهفتي
استكثر عليا المصدح …
لام قصائدي اللاجئة خلف المسرح
الساكنة الخيام ،المهججرة عبر المدى
فلا قصور ياسيدي القاضي تأوي نبضي
خلاء يغمر نظمي ،فيغشاه نبيذ الصحو
يتوجني أميرة على العرش
أنصف غروري سيدي القاضي
قل أنني شاعرة من رحم الألم
من لجوء قسريي من نبذة للخلد
أنصفني سيدي القاضي …
فأنا المحتلة في عقر داري
يغزوني الإلهام بغطرسته إذ زارني .
ألوذ منه فرارا فيلوذ بي مستنجداا
أخفي معانيه عنوة ،فيكشفني …
أنا التي تركته تائها في العراء
ولم أبتني له قصور بهرج في العلياء
وكم راهنت على طمسه
فأقسم ،رهانا على نصرتي
.
و في قد إستيقظ نبيا فحررني .
بقلم نعيمة مناعي .
أولا :العنوان
“أنا الشاعرة” هو عنوان يتجاوز التعريف الذاتي ليعكس صراع الهوية والإبداع في عالم مليء بالتحديات لشاعرة لا تُعرف فقط بأنها شاعرة بل تحمل في طياتها كل ما يمثله الشعر من مشاعر وأفكار.
ثانيا الشكل والمضمون
الاستعارات والتشبيهات
تستخدم الشاعرة مجموعة من الاستعارات المختارة بدقة مثل “أنا الهيام والإلهام” و”أنا لحبال الوصل خنساء”. تعكس هذه الاستعارات عمق تجربتها الشعرية، حيث أنها تمزج بين الذاتي والموضوعي، وتبرز مشاعر الحب والفقد.
3-اللغة والأسلوب:
اللغة المستخدمة في القصيدة غنية بالمفردات التي تحمل دلالات عميق الكلمات تتراوح بين الفخامة والبساطة، مما يعكس التوتر بين المعاناة والجمال استخدام تعابير مثل “غزوني الإلهام بغطرسته” يظهر الصراع الداخلي بين الشاعرة وما يحيط بها.
4-المواضيع الرئيسية:
أ-الهوية والتحدي: الشاعرة تؤكد على هويتها كفنانة وتواجه التحديات التي تواجهها في عالم الشعر. تتحدث عن الإلهام كقوة غازية، مما يعكس الصراع بين القوة الإبداعية والقيود المفروضة.
ب-الألم واللجوء: تشير إلى أنها “من رحم الألم” و”من لجوء قسري”، مما يعكس تجربة الشاعرة كفنانة تعيش في زمن من الاضطراب، وكأنها تعبر عن معاناة شعب كامل من خلال تجربتها الشخصية.
5-الحوار الداخلي:
تظهر القصيدة حوارًا داخليًا بين الشاعرة و”سيدي القاضي”، مما يضيف بعدًا دراميًا القاضي هنا يمثل السلطة أو المجتمع بكل تفاصيله الذي يحكم على الفن والشعر، مما يعكس التوتر بين التقدير الشخصي والاعتراف الاجتماعي.
6. الختام والدلالة:
تنتهي القصيدة بتنبيهات تدعو إلى الاعتراف بالشاعرة كفنانة حرة، تعبر عن نفسها من خلال الألم والمعاناة. تعكس النهاية نوعًا من التحرر، حيث تستشعر الشاعرة أن الإلهام، رغم كونه مصدر قلق، هو أيضًا ما يمنحها القوة.
ثالثا :الرموز الأدبية في القصيدة
قصيدة “أنا الشاعرة” تحتوي على مجموعة من الرموز الأدبية التي تعزز من معانيها وتعكس تجارب الشاعرة. ومن هذه الرموز الرئيسية المستخدمة في القصيدة:
1-الشاعرة:
تعتبر الشاعرة رمزًا للإبداع والحرية فتمثل صوتًا متمردًا يسعى إلى التعبير عن الذات في مواجهة القيود الاجتماعية والسياسية.
2- القاضي:
يمثل القاضي السلطة والحكم. يعكس التوتر بين الفنان والمجتمع، ويعبر عن الحاجة إلى الاعتراف والدعم من القوى الخارجية.
3. الهيام والإلهام:
تعتبر هذه الرموز تجسيدًا للمشاعر العميقة والقدرة على الإبداع. الهيام يشير إلى الشغف، بينما الإلهام يعكس القوة الخفية التي تدفع الشاعرة لكتابة الشعر.
4. الخنساء والمتنبي:
هذان الرمزان يرمزان إلى التراث الأدبي الكبير. الخنساء تمثل الفخر والقوة النسائية، بينما المتنبي يرمز إلى العبقرية الشعرية من خلال الإشارة إليهما، تعزز الشاعرة مكانتها في تاريخ الشعر.
5-الفراشة:
تظهر كرمز للتحرر والجمال. الفراشة تمثل التحول والحرية، حيث ترتبط بقدرة الشاعرة على الارتقاء فوق الألم والمعاناة.
6-القصور والخيام:
القصور ترمز إلى الاستقرار والرفاهية، بينما الخيام تمثل التشرد واللجوء. هذا التباين يعكس تجربة الشاعرة بين الأمان والتهجير.
7-الإلهام:
يظهر كقوة غازية، مما يعكس الصراع بين الشاعرة وما يحيط بها. يمثل الإلهام أيضًا عبئًا ثقيلًا، حيث يمكن أن يكون مصدر قلق بقدر ما هو مصدر إبداع.
8-نبيذ الصحو:
هذا الرمز يعكس حالة الوعي والحضور، حيث يشير إلى القوة التي تأتي من تجربة المعاناة.
9-النجوم:
تشير إلى الأمل والبحث عن الخلاص، مما يعكس رغبة الشاعرة في الوصول إلى النور وسط الظلام.
البنية الفكرية في القصيدة
إن قصيدة “أنا الشاعرة” تحمل في طياتها بنية فكرية غنية تعكس الهوية الشعورية للمرأة الشاعرة وصراعها مع المجتمع والوجود وذاك من خلال وسيلة فعالة للتعبير عن التجارب الإنسانية الشاملة في النهاية، تعتبر الصورة الشعرية جسرًا يربط بين الشاعر والمتلقي، حيث يمكن للجميع أن يجدوا صدى لأفكارهم ومشاعرهم في الكلمات المنثورة فتبرز مجموعة من المبادئ أو نقاط صراع متباينة حيث يتمحور الشعر حول مشاعر الشاعر وأفكاره ورؤاه الخاصة ويظهر في استخدام لغة معبرة وصور جمالية تنقل الأحاسيس بعمق ووضوح مع كل التوترات الداخلية والصراعات النفسية، مما يجعلها وسيلة فعالة للتعبير عن التجارب الإنسانية الشاملة.
وما يشد الانتباه فعلا هو أن الشاعرة ركزت على نقاط مختلفة دعمت موقفها من الآخر وذلك من خلال إبراز هذه العناصر :
1. الهوية والتأكيد على الذات:
تبرز الشاعرة هويتها بشكل قوي، مؤكدة أنها “الشاعرة” و”الهيام والإلهام”. هذا التأكيد يعكس اعتزازها بمكانتها ودورها كفنانة مبدعة.
2. الصراع مع المجتمع:
تعكس القصيدة صراعات الشاعرة مع المجتمع والقضايا المحيطة بها، حيث تتحدث عن “السارق” الذي سرق نشوتها و”المصدح” الذي استكثر عليها التعبير عن نفسها. هذا يعكس شعور القمع الذي تواجهه.
3-الإلهام والفن:
تبرز الشاعرة علاقة معقدة مع الإلهام، حيث يكون مصدرًا للغطرسة والعبء في بعض الأحيان. تعبر عن صعوبة استيعاب هذا الإلهام، مما يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في التعبير والقيود المفروضة عليها.
4-الألم واللجوء:
* تشير الشاعرة إلى الألم كجزء من هويتها، حيث أنها “شاعرة من رحم الألم” و”من لجوء قسري”. هذا يعكس السياق الاجتماعي والسياسي الذي قد يؤثر على الإبداع.
5-الاحتلال والحرية:
* تعبر القصيدة عن مفهوم الاحتلال، ليس فقط على المستوى الجغرافي، بل أيضًا على المستوى الفني والنفسي. الشاعرة تشعر بأنها محتلة في “عقر دارها”، مما يعكس الصراع من أجل الحرية في التعبير.
6.-التحرر من القيود:
في النهاية، هناك شعور بالتحرر الذي يأتي من الإلهام، حيث تتحدث عن “نبيا” يحررها، مما يدل على إمكانية الفرج والإنعتاق من القيود المفروضة.
7-اللغة الشعرية:
استخدمت الشاعرة اللغة الشعرية الغنية والمجازات يعكس عمق مشاعرها، حيث تتداخل عناصر الطبيعة والفن في تعبيرها عن الذات.
الشاعرة والقصيدة
القصيدة تعكس رحلة الشاعرة من الألم والمعاناة إلى التحرر والتعبير عن الذات، وتبرز التحديات التي تواجهها في عالم يتطلب منها التكيف مع القواعد المجتمعية. هي تعبير قوي عن الهوية النسائية والفنية في زمن مليء بالصراعات .
تنجح الشاعرة في التعبير عن تجاربها الإنسانية والعاطفية، مما يجعل القصيدة غنية بالمعاني والدلالات. تعكس الرموز الصراعات الداخلية والخارجية، وتقوي الرسالة التي تسعى الشاعرة إليها
قصيدة “أنا الشاعرة” هي دعوة للتأمل في معنى الشعر والإبداع في ظل الضغوط الخارجية تعكس الشاعرة من خلالها تجربة إنسانية عميقة، ظهر من خلالها كم هو صعب أن تُعبر عن الذات في عالم مليء بالتحديات القصيدة تجسد قوة الأدب في التعبير عن المعاناة والوصول إلى الهوية الحقيقية مما يجعلها عملًا فنيًا يستحق الدراسة والتأمل.
المراجع والمصادر
1-الرمزية في الشعر العربي الحديث” – يتناول هذا الكتاب الرمزية في الشعر العربي ويستعرض أمثلة من شعراء مختلفين.
2-تاريخ الأدب العربي” – يقدم نظرة شاملة على تطور الأدب العربي ويستعرض الرموز الأدبية المختلفة عبر العصور.
3-Understanding Poetry” (فهم الشعر) – يتناول هذا الكتاب كيفية تحليل الشعر وفهم الرموز والأساليب الشعرية.
4-Literary Theory: An Introduction” (نظرية الأدب: مقدمة) – يقدّم هذا الكتاب نظرة شاملة على النظريات الأدبية المختلفة وكيف يمكن تطبيقها على النصوص
بقلم د/آمال بوحرب
باحثة وناقدة تونسية