قل الله يُفتيكم ..بقلم المفكر العربي علي محمد الشرفاء
-إذا كانت الفتوى هي بيان الحكم الشرعي المنزل في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن ما يجري في واقعنا المعاصر من تعيين المفتين، وإنشاء دور ومؤسسات وهيئات للفتوى محلية وإقليمية وعالمية، قد جاء مخالفاً للتشريعات القرآنية واجبة الاتباع، لكونها ناطقة بالحق المبين الواضح من لدن حكيم خبير، هو الأعلم بخلقه وبمراده منهم وبما ينفعهم ويصلحهم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك : ١٤).
فالله تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته ،ولم يفرط في كتابه من شيء (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.)( الأنعام : ٣٨) يحتاجه الخلق في صلاح حالهم واستقامة أمر دينهم ، ومن يزعم أنه يستدرك على القرآن شيئاً فقد ضلّ وغوى، واتبع غير سبيل المؤمنين، إذ إنه فيما يخص الأحكام التشريعية وبيانها فقد تكفل بها الكتاب العزيز، وما علينا سوى اتباع سبيل الهدى الذي أرشدنا الله إليه بخصوص بيان الأحكام التشريعية من خلال التوجيهات الإلهية التالية :
أولا : قد بيَّن الله تعالى بنفسه الحلال والحرام، ودعانا إلى مطالعة بيانه واتباعه: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ) (الأنعام : ١٥١)
ثانياً : أن التشريع القرآني في الأحكام من الواضحات البينات غير المبهمات : (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) (الحج:١٦)
ثالثاً : أن الله تعالى قد تكفل بالفتوى وبيان أحكامه وتشريعاته وخصّ نفسه بذلك ، وكلف رسوله بإبلاغ الفتوى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) (النساء:١٧٦ )، وأكد على ذلك مرة أخرى في نفس السورة : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) (النساء : ١٢٧)
رابعاً : نهى عن استفتاء أي أحد كائناً من كان في أحكام تشريعاته القرآنية البينة:( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (الكهف: ٢٢)
خامساً: لا يوجد في التشريع الإسلامي الذي جاءت به الآيات القرآنية نص يأمر الله به الناس أن يعينوا مفتيين أو يقيموا مؤسسات أو هيئات للفتوى، مادام القرآن هو مصدر التشريع للدين الإسلامي، وأن القرآن مكتوب بلغة عربية ميسرة للذين تعلموا اللغة العربية، وليست به ألغاز، فالعبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج محددة بوضوح في الآيات القرآنية، لا تحتاج إلى توضيح أو تفسير، والقرآن ليس به ألغاز، إضافةً إلى أن تشريع المحرمات ليس مبهماً، وهو يأتي يتبعه تشريع النواهي بالابتعاد عن كل السلوكيات التي لا ينبغي أن يقع فيها المسلم، أما المعاصي والذنوب فقد بيَّنها الله في الذِّكر الحكيم.
سادساً : دستور المنهاج الإلهي للأخلاق العظيمة في الآيات القرآنية لا يحتاج إلى مفتٍ أو مفسر انظر مثلا قول الله سبحانه آمرا بالإحسان العام ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هل فيها ألغاز وصعوبات على الفهم تعوّق الإنسان عن العمل والاستجابة ؟! وكذلك جميع آيات المنهاج الأخلاقي في القرآن لا تحتاج إلى مفتين .
سابعاً : بدعة إنشاء دوائر الإفتاء وهيئاته كانت من مستحدثات العصور الماضية، لتمكين أجهزة الحكم والسلاطين من إقناع الناس بصحة القرارات والمراسيم الرسمية، لأنهم كانوا يفتقدون حينها المؤسسات الإعلامية التي تزين للناس أعمال الخلفاء وتبررها ليتقبلها الناس دينيا واجتماعيا، حتى لو كانت تتناقض مع التشريع الإلهي، في القرآن الذي جعله الله المرجع الوحيد لرسالة الإسلام، التي كلف رسوله عليه السلام بتبليغها للناس، وبين لهم حكمة الآيات والعظات ومقاصدها لمنفعة الناس جميعاً.
ولذلك فإن تأسيس إدارات الفتوى يستهدف في المقام الأول تبرير قرارات الحكام، لإقناع المسلمين أنها قد صدرت وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي كتبها الفقهاء استناداً إلى آرائهم الشخصية ومروياتهم المدعاة التي يعتبرونها المرجع الرئيس للتشريع الإسلامي ، ذلك المسلك الذي أدى إلى انصراف المسلمين عن القرآن وهجره كما شهد بذلك الرسول عليه السلام حينما اشتكى إلى الله من قومه بهجرهم القرآن .
فقد صدق تخوف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جعله يرفع شكواه إلى الله سبحانه في ذلك : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: ٣٠)
فسرعان ما حلت فتاوى الفقهاء محل التشريعات القرآنية ، ثم ابتدعوا دوائر الإفتاء وهيئاته ومناصبه، بعد ما أقنعوا الخلفاء والحكام بضرورة تبرير قراراتهم من خلال الشريعة، لتخضع الشعوب وتستسلم وتستقبلها بصدر رحب مهما اشتملت عليه من ظلم وعسف.