بمطالعة، سريعة، لإحدى محاضرات كلية الدفاع، التابعة لحلف الناتو، في بروكسل، نجدها تستهل القول بأنه في حرب “الأيام الستة”، ويقصد بها حرب 5 يونيو 67، تمكنت إسرائيل في هزيمة الجيش المصري، واحتلال شبه جزيرة سيناء المصرية، بالكامل، حتى أن الرئيس المصري، حينها، جمال عبد الناصر، أعلن تنحيه عن رئاسة الدولة المصرية، يوم 9 يونيو، أي بعد أربعة أيام من الهزيمة، تحملاً لمسئوليتها.
وطرحت مقدمة المحاضرة سؤالاً عما حدث بعد هزيمة الجيش المصري، وإعلان تنحي عبد الناصر … “هل سقطت الدولة المصرية؟”، وجاء الجواب، “لا”، واستطردت المحاضرة بالبحث في أسباب صمود الدولة المصرية، رغم ما ألم بها من كرب، فوجد الإجابة تتلخص في أن الشعب المصري لم يسقط، بل صمد، وتحدى الهزيمة، وبرهن على صموده برفض تنحي رئيسه، عبد الناصر، عن الحكم، والإصرار على عودته للحكم، بل بتأييده لجيشه المهزوم. وخلصت مقدمة تلك المحاضرة، ببروكسل، إلى أن الشعوب هي أسباب قوة الدول.
واليوم، يعيش عالمنا حروب الجيل الرابع والخامس؛ فلم تعد الحروب، كما عرفناها لتدمير الجيوش المعادية، بدبابة ضد دبابة، أو مدفع ضد آخر، فرغم ثبات أهداف الحروب، الساعية لتدمير الدول وإسقاطها، إلا أن وسائلها قد اختلفت، وصار اعتمادها على تدمير الشعوب، بعدما أثبتت التجارب أن هزيمة الدبابة والمدفع، لا تجدي إن كان وراءهم شعوب قوية. ومن هنا، جاءت مقدمة محاضرة كلية الدفاع، لحلف الناتو، في بروكسل، ببلجيكا، عن حروب الجيل الرابع والخامس.
فصارت الدول، في عالمنا المعاصر، تضع خطط حروب الجيل الرابع، معتمدة في هجومها على الشعوب، لإفقادهم الثقة في دولهم، وحكوماتهم، ورؤسائهم، وبث الفرقة بينهم وبين جيوشهم، مستخدمة في ذلك التكنولوجيا الحديثة، لتتطور لحروب الجيل الخامس، المعتمدة، بالأساس، على التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا”، يليها الوسائل التقليدية للإعلام. وتعد “الكتائب الإلكترونية”، أحد أشهر وسائل حروب الجيل الرابع والخامس، وكما يوضح اسمها، فهي عبارة عن عدد كبير من الحسابات على السوشيال ميديا، التي يرتبط محتواها بأسماء المشاهير، والنجوم، مثل اللاعبين الرياضيين، والفنانين، أو الكيانات مثل النوادي الرياضية، أو الجماعات الدينية والعرقية، فتجذب عشرات الآلاف، وأحياناً، الملايين من المتابعين.
تتولى تلك الحسابات، بناء على خطة ممنهجة، بث مختلف الأكاذيب والإشاعات، في اتجاهات محددة، مثل التفريق الديني أو العرقي بين أبناء الدولة، وبدورها تتولى الكتائب الإلكترونية نشرها على نطاق واسع، لإثارة الشعوب، وصولاً لهدف إسقاط الدول. والحقيقة أن تلك الأساليب، صارت تُدرس، حالياً، كدورات وبرامج تدريبية، في الكثير من مراكز الدراسات الاستراتيجية بمختلف دول العالم، للتعرف على أساليب تنفيذ خطط مهاجمة شعوب الدول، وكيفية خلق الشائعات والأكاذيب، ونشرها، باستغلال الظروف السياسية أو الاقتصادية، التي يعاني منها معظم دول العالم، لمختلف الأسباب.
ولعل أهم وسائل التصدي لتلك الحروب، هو انتهاج الدول للشفافية في عرض الحقائق، في ظل عالم منفتح، من المستحيل فيه إخفاء أي معلومة أو حدث، تنقل فيه وسائل السوشيال ميديا، الأخبار المصورة لحظة وقوعها. أما أقوى وسائل التصدي للأكاذيب والشائعات، فهو التوعية، التي اخترتها عنواناً لمقال اليوم، والتي من الضروري انتقاء أنسب وسائلها، بعدما عزفت الأجيال الجديدة، من الشباب، عن قراءة الصحف والمجلات، أو متابعة الإذاعة والتليفزيون، وصارت تعتمد اعتماداً كلياً على السوشيال ميديا، التي هي المصدر الرئيسي لنشر الأكاذيب والإشاعات.
فعلى الرغم من محاولة استخدام الدولة للسوشيال ميديا، للرد على الأكاذيب والإشاعات، إلا أن قدراتها لا تضاهي قوة الكتائب الإلكترونية المضادة، لذا صارت التوعية مهمة للغاية، على أن تتم في إطار ممنهج، يضمن الوصول للغاية. ولتبدأ التوعية، مثلاً، لطلاب المدارس، حتى ولو بكلمة مدتها 5 دقائق في طابور الصباح، والاستفادة من الاحتفالات والمناسبات القومية، لعقد لقاءات في المدارس، وفي الجامعات، التي تضم خيرة الشباب، كي لا نتركهم فريسة للسوشيال ميديا.
وإيماناً بمسئوليتنا تجاه شبابنا، فقد انتهزت فرصة الاحتفال بمرور 50 عاماً على حرب أكتوبر المجيدة، وطفت بأكثر من 26 جامعة مصرية لمحاضرة طلابها عما يحيط وطننا الغالي من تهديدات، وفاجأني إقبال الشباب على تلك المحاضرات، والانخراط في النقاش عما ورد بها من معلومات، وأثارني تعليقاتهم، بعد انتهاء المحاضرات، بأنهم لم يعرفوا تلك المعلومات من قبل. وهو ما لا ألوم الشباب عليه، إن لم تتح له فرصة الوصول لتلك المعلومات، من خلال الوسائل والأدوات المناسبة لعصره. لذلك يجب توعية الشباب والأسر من خلال مراكز الشباب والاندية، ولا يجب أن ننسى دور المنابر الدينية، وقد سعدت كثيراً بمبادرة السيد وزير الأوقاف لعقد الصالون الثقافي للدعاة، في كل محافظات مصر، لتوعيتهم بمخاطر الأمن القومي للدولة، والذي شرفت بالمشاركة في أولى جلساته بمحافظة القاهرة.
ولا يجب إغفال دور الجمعيات الأهلية، وقدرتها على التفاعل مع الأحداث، بتوعية أعضائها، خاصة من الشباب، وكذلك قصور الثقافة المنتشرة في كل ربوع مصر، ويمكن الاستفادة منها كمنصة للتوعية الجذابة والمستنيرة، في الفترة القادمة، خاصة وأن مصر تتعرض، حالياً، لحملات ضارية، تستهدف استقرارها. ويبقى الرهان على شعب مصر، القادر، دائماً، على التمييز بين الصدق والكذب، والخبر والإشاعة، بعد ما خاضه من معارك وحملات ضارية، بدأت من حرب 56، مروراً بهزيمة 67، حتى تحقق النصر العظيم في أكتوبر 73.