مدينة قوص التابعة لمحافظة قنا في صعيد مصر أقدم بقعة سياحية في أرض الكنانة، وهي من أكبر وأقدم المدن بصعيد مصر الجواني، والمتاخمة لمدينة الأقصر، وقد نشأ وتربى فيها لفيف من مشاهير أهل العلم والفكر والأدب. تروي بعض الكتب انه ولد وتربى فيها كليم الرحمن موسى بن عمران –عليه السلام- وبها بيت “فرعون مصر” أطغى طغاة التاريخ! ليس هذا فحسب، بل منها أيضاً: كوش العظيم –شقيق مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام، والملك العظيم مينا –موحّد القطرين، ونفرتاري الملكة العظيمة زوج الفرعون رمسيس الثاني، ولقمان الحكيم، وسيدنا إدريس عليه السلام، والخضر عليه السلام، والفرعون الشهير “آرك آمون” الذي طرد الرومان من مصر، وغيرهم، والملك أحمس –الذي طرد الهكسوس من مصر. زارها الرحالة، وكتب عنها المؤرخون، وأقام فيها الأمراء والقضاة والأعيان، واستوطنها العلماء والأولياء، وغيرهم من ذوي الشأن. فقصدها “جميل بثينة” للاستشفاء، ومكث فيها “أبو الطيب المتنبي” أكثر من خمسة أشهر أثناء إقامته بمصر، وزارها ابن خلدون، وابن بطوطة، وأبو الحسن الشاذلي، وعبد القادر الجيلاني، وعبد الرحيم القنائي، وجمال الدين الأفغاني، ومعروف الرصافي، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم. وكتب عنها الرافعي، والمنفلوطي، وعباس العقاد. وكانت (قوص) مقراً لحاكم الصعيد في العصور الوسطى، وأنشئت بها المدارس الفقهية والشرعية منذ زمن بعيد جدا، ولا تزال هذه الآثار باقية إلى يومنا هذا .. وقد تخرج في تلك المدارس والمعاهد لفيف من العلماء والفقهاء والمحدثين والأدباء والخطباء والكتاب المشاهير .. الذين ما زالت المدارس والمساجد والميادين تحمل أسماءهم وألقابهم أمثال: الفقيه العلامة/ ابن دقيق العيد، والشاعر الأديب/ البهاء زهير، والعلامة/ ابن جني، والشاعر الكبير/ ابن مطروح .. وغيرهم من أرباب البيان وعلماء الشريعة الذين تتجاوز أعدادهم المئات، وقد أورد “الإمام الادفوي” في كتابه الشهير (الطالع السعيد في مناقب أهل الصعيد) أسماء هؤلاء الأعلام وأنسابهم وسير حياتهم ومكانتهم ومؤلفاتهم. مدينة العلم و(قوص) كلمة فرعونية معناها “مدينة العلم” حيث كانت مقراً للكهنة والكُتّاب والحكماء والفلاسفة إبان عصور الفراعنة .. أما في اللغة (القبطية) فهي تعني الدفن، وذلك لتخصص جماعة من أهلها في دفن ملوك الفراعنة بعد تحنيطهم! وقد اشتهرت قوص في العصور الوسطى بوجود أقوام لهم معرفة تامة بصيد الثعابين والحيات والعقارب بواسطة عزائم وأقسام سحرية يقرأونها عليها، كما يقال إن طائفة الحواة في القطر المصري تأتي من قوص، ويؤيد ذلك ما رواه المقريزي عن الأمير تكتباي حاكم قوص في عهد السلطان محمد بن قلاوون وقصة المرأة الساحرة معه. كما كان لقوص شأن عظيم في العصور الوسطى، إذ كانت قوص عاصمة الإقليم منذ العصر الفاطمي حتى نهاية الخلافة العثمانية. وذكرها “الإدريسي” في (نزهة المشتاق) بين مدن الصعيد الأعلى، فقال: مدينة قوص بالجهة الشرقية من النيل، وهي مدينة كبيرة بها منبر (أي جامع فيه خطبة) وأسواق جامعة، وتجارات، ودخل وخرج، والمسافرون إليها كثيرون، والبضاعات بها نافقة، والمكاسب رابحة، والبركات ظاهرة، وشرب أهلها من ماء النيل لأنها مجاورة له، وبها بقول طيبة، وأنواع من الحبوب كثيرة، ولحوم مدهنة، حسنة المنظر، لذيذة المأكل ، ولكثرة نعمها كان هواؤها وبائيا .. “. وفي (صبح الأعشى) أن قوص مدينة جليلة، في البر الشرقي على النيل ذات ديار فائقة، ورباع أنيقة، ومدارس وربط وحمامات، يسكنها العلماء والتجار، وذوو الأموال، وبها البساتين والحدائق المستحسنة .. “. ويحدثنا المقريزي أنه كان بقوص مائة وخمسون مغلقا، و”المغلق” هو الحديقة التي لا تقل مساحتها عن عشرين فدانا ، ولكل مغلق ساقية ذات أربعة وجوه. ونستطيع تقدير أهمية مدينة قوص في العصور الوسطى إذا عرفنا أنها كانت مقرا لحاكم الصعيد، وأن بها دارا لضرب النقود، وكان صك النقود شارة من شارات الملك في ذلك الوقت. كما كانت مدينة قوص مزدهرة ومنتعشة اقتصاديا، كذلك كانت متقدمة ثقافيا، فقد كانت بها ست مدارس، ودار للحديث وكثير من المساجد الجامعة والزوايا .. ويقول الادفوي في تاريخه: إنه عثر في سنة 672 هجرية في عصر السلطان الظاهر بيبرس على نقود مدفونة في مدينة قوص، وأنها ترجع إلى ألف وثلاثمائة سنة إلى أوائل العصر الروماني. آثار قوص تحتضن قوص بين جوانحها عدداً كبيراً من الآثار الفرعونية، والآثار القبطية، والآثار الإسلامية. ففيها (مدرسة البهاء زهير) التاريخية .. وفيها أهم الآثار الإسلامية على الإطلاق، وهو (الجامع العمري) الذي يعد من أشهر المساجد وأقدمها، ليس في قوص فحسب، وإنما في صعيد مصر قاطبة. وهذه التسمية بــ(العمري) لا تعني بالضرورة أن منشئه هو “عمرو بن العاص” ولكنها تعني أنه أقدم مسجد في المدينة كما أن (الجامع العمري) بالفسطاط هو أقدم مساجد مصر .. وفي العصر الفاطمي أدخلت على هذا المسجد الكثير من التغييرات والتجديدات التي أفقدته كثيرا من معالمه الأصلية، فقد تغير كثير من عقوده الداخلية في إيوان القبلة في العمارة التي قام بها محمد بك قهوجي سنة 1233 هجرية، كما أن التجديد الذي حدث للمئذنة أفقد الجامع وجهاته الرئيسية. ويوجد في هذا الجامع منبر على جانب كبير من الأهمية، إذ أنه يعتبر من أقدم منابر مصر المؤرخة ، فقد أنشئ سنة 550 هجرية، وهو من الخشب الساج الهندي المحفور حفراً بارزاً والمزخرف كذلك بالحشوات المجمعة التي بدأت تظهر في أواخر العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري. وقد سجل تاريخ هذا المنبر على لوحة تذكارية فوق باب المنبر وهي مكتوبة بالخط الكوفي الزهر، وجاءت الكتابة في سبعة اسطر وفي منتصف البائكة الثالثة في إيوان القبلة يوجد محراب يرجع تاريخه إلى العصر المملوكي، زخرفت واجهته بزخارف جصية قوامها عناصر نباتية وهندسية بديعة التكوين .. وتشبه زخارف هذا المحراب زاوية زين الدين يوسف بالقاهرة، وكذا المحراب المملوكي في جامع عمرو بن العاص، ويحيط بالمحراب كتابة بالخط الثلث المملوكي نصها: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين”. وحول طاقية المحراب قوله تعالى: “قد نرى تقلب وجهك في السماء … “ وفي النهاية البحرية للبائكة الرابعة والخامسة من إيوان القبلة توجد مقصورة من الخشب الخرط على جانب عظيم من الأهمية، فالجانب الشرقي من المقصورة باق على صورته الأولى، ويتكون من حشوات بها زخارف محفورة حفرا عميقا، وكذا الجانب الغربي، وكذا باب المقصورة مكون من حشوات سداسية الشكل يحيط بها من أعلى ومن أسفل أشرطة من خشب الخراط الذي انتشر استعماله في العصر المملوكي، وداخل هذه المقصورة يوجد كرسي مصحف مصنوع من الخشب المصنوع بطريق الحشوات المجمعة والمطعم بالعاج والصدف، ويحيط بالكرسي شريط من الكتابة بالخط النسخ المملوكي، وتتكون الكتابة من آية الكرسي .. ومن المرجح أن يكون منشئ الكرسي والمقصورة هو منشئ المحراب المملوكي بالبائكة الثالثة بإيوان القبلة، أي أنها جميعا ترجع إلى أوائل القرن الثامن الهجري. ويوجد أمام المحراب المملوكي عمود من الرخام تعلو تاجه (طبلية) خشبية عليها نصان من الكتابة الكوفية، نقلت إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، تحت رقم 3100، وقام بتحقيقها العلامة الفرنسي “جاستون فيت” فوجد أن الكتابة تحتوي على تاريخ سنة 473 هجرية، كما عثر على اسم سعد الدولة “سارتكين” المتولي قيادة الجيوش الفاطمية في ولاية قوص وثغر أسوان المحروس، لذلك رجحت الدكتورة/ سعاد ماهر في كتابها الشهير (مساجد مصر وأولياؤها) أن منشئ هذا الجامع هو بدر الدين الجمالي – أمير الجيوش في عهد الخليفة المستنصر بالله سنة 473 هجرية – وذلك على يدي سعد الدولة “سارتكين” قائد جيوش المنطقة، وفي سنة 550 هجرية أمر الصالح طلائع وزير الخليفة بعمل هذا المنبر المبارك. وإلى جانب (الجامع العمري) فهناك عدد كبير من المساجد والمزارات الإسلامية التي احتفت بها مدينة قوص ونواحيها منذ زمن بعيد، مثل: مسجد أبو العباس، ومسجد الطواب، ومسجد الإمام ابن دقيق العيد .. وغيرها من المساجد التاريخية، ذات المآذن والمحاريب والمنابر الأثرية الخالدة، التي قد يطول ذكرها.