العلوم والتكنولوچيا في الحضارة المصرية –
إيزيس وپاريس … والمصريين
–في البدء
هذا المقال جانب من جوانب كثيرة جداً في الجزء الخامس من سلسة كتاب مُجزّأ أعمل عليه الآن، ربما سيصدُر من سبعة كتب على مراحل. سيكون الكتاب، على ما أعتقد، فريداً ليس فقط في شمولية محتواه لكن أيضاً في سهولة وسرعة وخلاصة تقديمه للمعلومة غير التقليدية للمشغولين منّا والمضغوطين الذين لا يجدون الوقت للقراءة في علوم الحضارة المصرية.
سلسلة هذا الكتاب الذي أتمنى أن يخرج جزءه الأول للنور في بداية سنة 2024 هو تقريباً عن كل شيء يتعلّق بحضارة المصريين العظيمة وتاريخها وعلومها واختراعاتها واكتشافاتها وعقيدتها وفلسفتها وعبقرية شعبها والأكاذيب والمؤامرات والنّهب والمكائد والسرقات والبشاعات التي حطّت عليها منذ التاريخ القديم وحتى القرن العشرين.
–بالرغم من تأخّري الطويل، لكني أنتظر قريباً إطلاق كتابي “العلوم والاختراعات في أم الحضارات” فى آخر أيام سنة 2023، وسيكون ضخماً، وربما سيُغيّر مفاهيم منظورك عن الحضارة المصرية تماماً.
إيزيس في پاريس
مخطوطة فنية فرنسية من القرن الخامس عشر الميلادي تُظهر رسماً لقارب على شاطئ تجلس عليه سيدة، وحولها خارج القارب ثلاثة أشخاص . القارب به شراع ويحمل علَماً طويلاً باللون الأحمر وعليه رسم لكلب بالأبيض. مكتوب تحت الرسم بالفرنسية القديمة: “هنا الإلهة المصرية إيزيس التي تأتي إلى شواطئنا”.
حسب هذه الأسطورة، أو النظرية، أو الحقيقة، تصل إيزيس إلى پاريس فوق نهر السين بقاربها الذي عُرف بعدها باسم “قارب پاريس” لتذهب إلى معبدها. تم التأكيد تاريخياً بأنه كان هناك معبداً رومانياً لإيزيس في ضاحية سان-چيرمان دي-پري في پاريس حول القرن التاسع وحتى القرن الرابع عشر الميلادي، وقامت الكنيسة الرومانية بإغلاقه وهدمه خوفاً من عقيدة إيزيس “الوثنية”. القصة هنا كبيرة وطويلة وتعود لعصر يوليوس قيصر مروراً بعصر الڤايكنج، لكن حسب مؤرخي القرن الخامس عشر بعد الميلاد والذين يبحثون في أصل تسمية مدينة پاريس فإن هناك علاقة تاريخية وثيقة بين اسم إيزيس وتسمية مدينة پاريس باسمها الذي نعرفه اليوم.
يقول چاك لوجرانت أحد مؤرخي ذلك الوقت أن عدداً كبيراً من الناس رأوا تمثالاً ضخماً لإيزيس حول معبدها في سنوات 1400م. وكتب لوجرانت: “في أيام شارلمان (القرن الثامن) كانت هناك مدينة اسمها «إيسيوس» وسُمّيت بهذا الاسم بسبب الإلهة إيزيس التي تم تكريمها هناك. والآن يُطلق عليها اسم ميلون وهي مسافة حوالي ساعة جنوب پاريس. تُدين پاريس باسمها لنفس ظروف الاسم ويقال إن اسمها «پاريزيوس يشبه إيسيوس» لأنها تقع على نهر السين وهو الحال في مدينة ميلون”. أرجَع لوجرانت اسم “إيسيوس” لحقبة غزو الڤايكنج لفرنسا في القرن الثامن الميلادي وأن كبير الڤايكنج واسمه آربون كان يُبجّل إيزيس وأسمى المدينة التي غزاها على اسمها بـ “إيسيوس” بدلاً من اسم “لوتيسيه” الروماني القديم.
وفي العصور الوسطى، أصبح اسم المدينة هو “پاريسيس التي تُشبه إيزيس Parisis, quasi par Ysis” وأصبحت في اللاتينية أيضاً باسم “المشابهة لإيزيس Quasi par Isis”. وجاء القرن الثامن عشر لينمو مُعتقد كبير في قلب پاريس بأن كاتدرائية نوتردام أقيمت على أطلال معبد إيزيس، وأن تلك الإلهة المصرية التي جاءت على قارب اسمه پر-إيزيس (بيت إيزيس باللغة المصرية القديمة) ليؤكّد أن اسم پاريس هو مصري عقائدي المنشأ بلا شك.
الثلاثة أشخاص خارج القارب هم كاردينالات مدينة پاريس يستقبلون الإلهة إيزيس عند وصول قاربها. والكلب الذي على العلم هو النجم الرئيسي في كوكبة إيزيس-سپدت في السماء التي تُعرف اليوم في علم الفلك باسم كوكبة كانيس ماچوريس أو كوكبة الكلب الأكبر. نجم الكوكبة الرئيسي هو نجم ألفا-كانيس ماچوريس أو نجم سپدت أو نجم الكلب الأكبر أو نجم الشعرى الإيزيسي. قارب إيزيس أصبح رمز مدينة پاريس وزهرة الملكية الفرنسية المعروفة “فلور-دي-ليس” الذي هو زهرة لوتس رُسِم على شراع قارب إيزيس.
وعندما عاد ناپوليون من غزوه لمصر أمر بتكوين لجنة من علمائه لبحث صحة أسطورة وصول إيزيس المصرية إلى شواطئ فرنسا بقاربها. قالت اللجنة لناپوليون “نعم! جاءت إيزيس إلى پاريس”. فردّ عليهم ناپوليون في سنة 1811م بخطاب مكتوب وموجودة صورته في المراجع بأن يقوموا بتغيير شعار مدينة پاريس من قارب إيزيس الصغير إلى سفينة البحرية الفرنسية التي نقلت الجنود الفرنسيين عبر البحر المتوسط إلى مصر، ووضع إيزيس وهي تجلس على عرشها في مقدمة السفينة وفوقها في السماء يظهر نجمها بدلاً من صورة الكلب. وأصبحت بذلك پاريس هي مدينة إيزيس ناپوليونياً رسمياً.
الغريب جداً أن قوس نصر ناپوليون الشهير في ساحة شارل دو جول في پاريس يُعرف تاريخياً أيضاً باسم “مكان النجم La Place de l’étoile”، وهو نجم إيزيس بالطبع. الأغرب أنه كُتب في بعض الكتب أنه عندما يُمدّ خط من المحور الهندسي لبناء هذا القوس فإنه يمتد ليُحاذي “مدينة إيزيس النجمية” في السماء التي هي كوكبة الكلب الأكبر وقت بنائه. هذا شيء غريب بالفعل.
سقوط سجن الباستيه هو الشرارة التي أشعلت الثورة الفرنسية في سنة 1789م. وإيزيس كان لها مكاناً واضحاً أيضاً في ثورة الفرنسيين. فوق أنقاض سجن الباستيه، وكجزء من الاحتفالات بالذكرى السنوية للثورة في سنة 1793، بنى الپاريسيون نُصباً تذكارياً عبارة عن تمثال ضخم لإيزيس وهي ترتدي الزيّ المصري القديم وهي تجلس وسط نافورة ويتدفق من ثدييها الماء، وأسموها “نافورة التجديد” و”نافورة إيزيس”. وبما أن إيزيس ترمز في العقيدة المصرية إلى الأمومة والطبيعة والتجديد والشفاء جاء، كل السياسيين والشعب الفرنسي ليشربوا من ماء الإلهة إيزيس لكي يتجددوا. نافورة التمثال لم تعد موجودة لكن المكان يُسمى اليوم بساحة الباستيه. مكتبة فرنسا الوطنية تحتفظ بلوحة مرسومة لمشهد النافورة الإيزيسية.
… وختامـــاً
تاريخ مصر الحضاري طويل جداً ومُعقّد جداً ولا نكاد نفهمه كما ينبغي، لأننا مخنوقين داخل النفق الضيّق لمناهج علم الآثار والمصريات اللذان كُتبا في الغرب واللذان لا ينظران إلى العُمق الحقيقي للحضارة الأعظم وعقيدتها الأقوى على وجه الأرض. لهذا، فإن كتابي “العلوم والاختراعات في أم الحضارات” سيُلقي كثيراً من الضوء على الجانب الأعظم في الحضارة وهو الجانب العلمي اللا-أثري لشعب سار في بدائية وظلام التاريخ بالعلم والبحث والكشوفات والاختراعات والأخلاق أولاً، ثم لاحقاً بالدين.
… ولنا حديث آخر عن مصر العظيمة قريباً.