في عصر يوم من صيف عام 2002، أقيم بفناء مدرسة السادات بالقلمينا حفل تكريم الأستاذ عبدالباري بدوي، يرحمه الله، بمناسبة خروجه على المعاش، وكنتُ (عريف الحفل)، الذي شرّفه بالحضور وقتها العمدة صلاح – طيّب الله ثراه – وجمع غفير من أبناء البلدة وطلبتها كباراً وصغاراً، وعند تقديمي للعمدة صلاح ليُلقي كلمته، قلتُ للحضور: “لعلّ كثيرين من طلبتنا اليوم لا يعرفون أن أرض هذه المدرسة كان حتى أواخر السبعينيات (كَرْم نخل)، كثيراً ما كان هذا الرّجُل – أقصد العمدة صلاح، يرحمه الله – يطلب منّ أحدنا أن يُحضر له “جريدة” من هذا النخل ليضربنا بها، عندما كان يدرّس لنا مادة الحساب”! وعندما تحدّث الأستاذ/ العمدة، قال: “ما ذكره تلميذي خالد صحيح، كنّا نضربُ ونشدّ على الطلبة وقتها كي يتعلّموا، فلم يكُن هناك سبيل آخر لنهضة البلدة وعلوّ شأنها إلّا بالتعليم، وليست لنا مصادر أخرى للثراء والعيش الكريم إلّا من خلاله، ولا ظهير صحراوياً لقريتنا كي نتّكل عليه”. *** في عام 1979 كنتُ بالصف الخامس الابتدائي بمدرسة القلمينا المشتركة، ولم يكن في البلدة كهرباء ولا ماء حنفية، ولا شارع مُسفلت، ولا إنترنت، ولا هواتف، ولا فضائيات!!…. كنّا نذاكر على (لمبات الجاز)، التي كانت أمّهاتنا تمسحها كل ليلة قُبيلَ المغرب، وتضع فيها الجاز، لنبيتَ ليلتنا “نذاكر ونحلّ الواجبات” على ضوئها. *** في العام التالي، أي في الصف السادس، كان الأساتذة جميعاً يتنافسون فيما بينهم علينا (!!!)، كلٌّ منهم يريدُ أن يأخذنا في مجموعة التقوية (المجاااااانية!!) صباح كلّ يوم، والتي تبعتها مجموعة أخرى بعد العصر وحتى قُبيل المغرب، و”ثالثة” بعد العشاء، (بعد أن أصبحت هناك لمبات كهرباء في الفصول). ولا ننسى – ما حيينا – ما بذله معنا من جُهد الأساتذة الأفاضل محمد أبوالمجد، وصلاح إسماعيل، وعبدالراضي صيّاح، وصبري حسانين، وأحمد سليمان، ومحمود رسلان (من المداكير/ الوقف)………. وغيرهم، كان حُبّ البلد وأبنائها/ أبنائهم هو الغالب على سلوكهم وجهدهم وعملهم. كانوا جميعاً نهر عطاء لا ينضَبُ مَعينُه، محبّتهم للبلد ولطلبتهم غير عادية، شغفهم وحرصم على تفوّق تلاميذهم وتنافسهم الشريف لا يُبارى ولا يُجارَى. *** شاركت “القلمينا المشتركة” في مسابقات أوائل الطلبة، ونافسنا مدرسة الجيل الصاعد بالوقف، و”صعدنا” نحنُ وقتها، حتى وصلنا إلى التنافس على مستوى المديرية، وفُزنا…!! كان أساتذتنا – بلا استثناء – حريصون على تفوّقنا ويبذلون أقصى جهدهم (داخل الفصل) وفي مجموعات التقوية (المجااااانية!!)، وكنّا مع نهاية العام ننتهي من حلّ امتحانات جميع المحافظات بـ “سلاح التلميذ” في كلّ المواد. كان كل أستاذ يتعامل مع أيّ منّا كأنّه ابنه، من دون النظر إلى عائلته ولا “قبيلته”، ولا جنسه ولا حتى دينه، كنّا دوماً معاً؛ عبدالناصر عويس، ومحمد أبوالحمد عبدالسميع، وذهني عزمي أرمانيوس، وأبوعايد محمود سالم، ونورالدين الحريري، وجبريل الأبرق، وزهور عبدالراضي وشقيقتها سهير، وعيد فخري منسي، وأشرف محمود حفني، ونبيل مصطفى عباس، وأبوالحمد عبدالراضي الطويل… و…. و…. *** وكنّا – كُلّنا – نحترم أساتذتنا ونُجلّهم ونقدّرهم، وعندما كان أهلنا يبعثون بأحدنا إلى (السويقة) بعد العصر، لشراء شيء ما، كان الواحد منّا يهربُ بسرعة خشية أن يلمحه أحد الأساتذة، فـ “يوضّبَه” في اليوم التالي إن وجده قد قصّر في إجاباته أو… واجباته!! كان بعضنا ينالُ نصيبه من الضرب، (إن لزم الأمر)، ولا يرجع إلى بيته إلا وهو “مبسوط”، لثقته بمحبّة أستاذه لتلاميذه، وأنه ما كان ليضربه إلا من أجل مصلحته، وكان آباؤنا الكرام – رحم الله الجميع – يقولون للمعلمين العبارة الشهيرة “خدوه لحم وهاتوه عظم”!! أي افعلوا به ما شئتم، المهم يتعلّم ويبقى “فالح”!!
(الصورة… جانب من كشف درجات تلاميذ الصف الخامس بـ “القلمينا المشتركة” للعام الدراسي 1980/ 1981)