قرأه – حمدي حامد لا خلاف على أن للشعر وظيفةً أساسيةً تتمثل في تهذيب النفس والتعبير عن خلجاتها ومعالجة قضاياها المادية والروحية للسمو بها في مراقي الإنسانية بمعناها الشامل.. ومن الشعر ما يجسد هذه الوظيفة خير تجسيد، خاصة حين يكون الشاعر من أبناء الضاد المخلصين لها، والقابضين على ناصيتها نثرًا وشعرًا عموديًّا وحرًّا.. أحد هؤلاء “الدراويش” الهائمين بحب العربية مطالعةً وإبداعًا هو الشاعر محمد هارون الذي صدر منذ أسابيع ديوانه الثاني “امرأة في حنايا الروح” وذلك عقيب صدور ديوانه الأول “لو تبوحين”؛ مما يشير إلى غزارة إنتاجه ويَعِد بصدور دواوين أخرى على المدى القريب.. وكما عوَّدنا الشاعر هارون يغلب على شعره العاطفة الجياشة والبوح الذى يخالج النفس، مخاطبًا امرأة هي الحبيبة القريبة حينًا والهاجرة الصادَّة حينًا ولكنها رغم ذلك تسكن “حنايا الروح” على حد عنوان الديوان الذى يعبر عن أغلب مضمونه.. الديوان صدر عن دار “اقرأ” للطباعة والنشر والتوزيع.. ومن خلال القراءة المتأنية للديوان يمكننا الوقوف على أبرز ملامحه.. يرى الشاعر محبوبته “وطنًا” يسكنه وظلًّا يلجأ إليه من هجير الحياة وليست مجرد امرأة.. يقول: أيا من كنتِ لي وطنًا وكان هواكِ إيماني وكنتُ إذا الزمانُ جفا ألوذُ بقلبكِ الحاني أفــيءُ لظـــلِّ عينيكِ ففيها كان عنواني
أما قصيدة “امرأة في حنايا الروح” التي استوحى الشاعر منها عنوان ديوانه فهي تفيض وَجْدًا، وتصور عاطفة جياشة ترجمها استخدامه لأسلوب الخطاب في مناجاة محبوبته سواء بالاستفهام أو التقرير، إلى جانب تلك الصفات الشفيفة التي أضفاها عليها.. يقول: أنتِ ما أنتِ؟ شجرةٌ من ياقوت لؤلؤةٌ نرجسية تتمشَّى بدلال تتثنَّى في اقتدار ……….. أنتِ يا مُنيتي ملاحة وصباح واشتهاءٌ يملأ المدى ملاحة وصباح
واشتهاءٌ يملأ
المدى البقريَّ بلا منتهىً …… أنتِ ظلُّ حنيني وأمانيَّ التي تهيم بلا منتهًى وانتهاء المسير أنتِ قنينة عِطري وكتابي الذى يحتضن اشتياقات عمرى
ويعتب الشاعر على محبوبته في أبيات من الشعر العمودي، ويشكوها إليها واصفًا إياها بـ”مولاتي”، معلنًا مخاصمتها وهجرها – على كُرهٍ – بسبب قسوتها عليه وعدم مبادلته حبًّا بحب: ولقد قسوتِ عليَّ يا مولاتي وتركتِني للويلِ والحسراتِ وقتلتِ في نزقٍ جميلَ مشاعري وزرعتِ فيَّ مرارتي وشَكَاتي فلْتعلمي أني تركتكِ مُكرهًا والتركُ أفضل من هوًى كَمَواتِ
ويقول من الشعر العمودي أيضًا: لا عذر عنــدي للتـــي باعت هوايَ بلا ثمن وقضـــــتْ على حبي لها فأصابني منه الوهن يــا ويـــــح قلبي إنـــهُ ما عاد يعرف ما السكن قـد صــار بعد هنائــه تعسـًـــا يحاصره الشـــجــن
والشاعر على صلة بالتراث العربي ورموزه التي صارت معادلًا موضوعيًّا لعدد من الصفات واتفق الأدباء والشعراء على رمزيتها.. فكما أنَّ حاتمًا رمز للكرم وعنترة رمز للشجاعة فإن ليلى رمز للمحبوبة يظل يحمل تلك الرمزية مهما طال الزمن وامتدت العصور.. لكن الشاعر هذه المرة لا يمر على ديارها يقبِّل ذا الجدار وذا الجدار، ولكنه يستجمع شجاعته ليأمر الشوق المقيم ببابها أن يرحل.. يقول محمد هارون في قصيدة رائعة: يا أيها الشوق المقيم بباب ليلى دعكَ منها حبُّها وهمٌ فسافِر واطَّرحْها ما هذه ليلى التي رُمْتَ رضاها وتعلقتَ صبيًّا بضياها ما هذه ليلى التي قد طويتَ الأرضَ كي تحمي حماهاَ فتعامتْ عنك وراحتْ تمنح الحبَّ لجلادٍ سَبَاها
ويشكو الشاعر من غدر الأصدقاء؛ وهو غرض من الأغراض التي عرفها الأدب العربي شعرًا ونثرًا، كما يقول المتنبي: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا … فدعه ولا تكثر عليه التأسفا ففي الناس أبدال وفي الترك راحة … وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا فما كل من تهواه يهواك قلبه … ولا كل من صافيته لك قد صفا إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة … فلا خير في خل يجيء تكلفا ولا خير في خل يخون خليله … ويلقاه من بعد المودة بالجفا وينكر عيشا قد تقادم عهده … ويظهر سرا كان بالأمس في خفا وفى هذا الباب يقول (هارون) في قطعة شعرية عمودية رائعة: كم ذا أكابد منكمو وألاقي يا ليت أني واجدٌ ترياقي يا أيها الصحب الذين سقيتُهم بالحب آلافًا من الأشواق فكأنما يسقون مُرًّا علقــــمًا بالبخس باعوني بلا إشفاق ولشدَّ ما أوثقتُ نفسي بالهوى لكمو فهلّا تطلقون وثاقي
ورغم حفاوة ديوان (امرأة في حنايا الروح) بالجانب العاطفي فإننا نلمح فيه لمحة من وفاء؛ وذلك في قصيدتين تعبران خير تعبير عن صفة الوفاء لدى الشاعر، أولى القصيدتين كتبها في رثاء شيخه الذي حفظ –وغيره كثير- على يديه القرآن وهو الشيخ سيد عبد الستار حيطة رحمه الله، يقول هارون في رثاء شيخه وشيخنا: شيخ قد علَّم أجيالا آي القرآن وحكمتَهُ وتراه إذا أَمَّ أناسًا لامسَت القلبَ قراءتُهُ صوتٌ واللهِ ولا أحلى قد بارك ربي نبرَتَه وأداءٌ حسنٌ وجهادٌ قد طابَ فطابتْ سيرتُهُ ومن الوفاء في ثنايا القصيدة أن الشاعر لم ينس ذكر بعض صحبه من تلامذة الشيخ الراحل فيقول: منذ العشرين يعلمنا آيَ القرآن وشرعته محمودُ وحمدي وعليٌّ مبروكُ… وكُثرٌ حفَظَته فلترحمْ ربي سيدَنا ولتكرمْ عندك رقــــدتَهُ واحشره مع الصحب كرامًا واجعل من حوضك شربته
أما القصيدة الثانية التي تعبر عن وفاء الشاعر فهي قصيدته التي سماها “مرثية حلم” في رثاء ابن عمه الشاب (محمود سيد) –رحمه الله- الذي اغتالته يد الغدر بلا جريرة على أعتاب بيته قبل زفافه بأيام فأُطلق عليه “عريس الجنة”.. وفيها يقول هارون: فجأةً أسكتَ الضوضاءَ مِن حولك صوتُ الظالمين بيَدِ الإجرام إذ مُدَّتْ فأدمتْ برصاص الغدر قلبَ الثاكلين أيها الحلم الذي خان أمانينا وأضحى آهةً تخنق الفرحَ وتغتال الحنين ………….. فتخففتَ سريعًا واتخذتَ الحقَّ في الدنيا سبيلا ومضيتَ قلتَ إن خُيِّرتُ في الصحبة أختار أبي كان في الناس “عليًّا” وهو الآن “عليّ” …………….. كنتَ يا محمودُ بين الناسِ محمودَ الفِعال ما تلفظتَ بسوءٍ غاضبًا ولم تَدْنَسْ بـ”قيلٍ أو يُقال” لم تكن تحملُ نحوَ الخلقِ غلًّا.. لا ولم تجنَحْ إلى أهلِ الضلالْ
ومن الوفاء الوفاء للوطن، خاصة في سنوات الغربة والحنين.. وهذا ما نلمسه في سطور الديوان حين يقول الشاعر: ومصرُ.. حبيبة قلبي أنا وزهرة عمري ونبع السنا ومصر مليكة يومي وأمسي ومصر المُراد ومصر المُنى ويقول: وما مثل مصر حياةً وروحًا ونسمة عيد تداوي الجروحا وشعبًا ودودًا يفيض حنينًا ونيلًا عظيمًا ووجهًا صبوحا ويقول: جمالكِ يا مصر سحر كبير ظلوم لقلبٍ ضعيفٍ كسير فهلّا رحمتِ قتيل الهوى وأنقذتِهِ من عذابٍ مرير أحبكِ أمي فأنتِ الحنان وأنتِ الأمان وأنتِ العبير
لقد استطاع الشاعر محمد هارون بشاعرية فطرية غير متكلفة ولغة عالية ورصينة أن يتسلل إلى أعماق قارئه ويجذبه لقراءة ديوانه بقلبه قبل عينيه؛ لأنه تعبير عن حالات وجدانية وإنسانية يعيشها كل منا في مراحل حياته المختلفة، وهذا هو الدور الذي ينبغي أن يقوم به الأدب عموما والشعر على وجه الخصوص..