فى لقاء مع اللواء رضا يعقوب المحلل الاستراتيجي والخبير الأمني ومكافحة الإرهاب يقول لم يكد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ينتهى من الإشارة الى موقف بلاده الرافض لإنضمام فنلندا والسويد الى حلف شمال الأطلسى (الناتو) ما لم تتم تلبية شروط أنقرة حتى تطرق الى الهدف المشروع للمناطق الآمنة التى أنشأتها بلاده شمالى سوريا.
خلال مؤتمر صحفى عقده أمس أعلن أردوغان أن بلاده ستشرع قريباً بإستكمال إنشاء مناطق آمنة بعمق 30 كيلومتراً على طول حدودنا الجنوبية (مع سوريا) وهو الأمر الذى حققت أنقرة جزءاً منه عبر عمليات عسكرية شنتها فى الشمال السورى كان آخرها عملية نبع السلام أواخر عام 2019. وها هى تعود الآن للتلويح به بينما تجرى الإدارة الأمريكية ودول فاعلة فى الناتو إتصالات لإقناع تركيا بالموافقة على إنضمام الدولتين الإسكندنافيتين الى الحلف.
أردوغان حدد المناطق التى ستأتى على رأس أولويات العمليات العسكرية التركية المزمعة بتلك التى تعد مركز إنطلاق للهجمات على تركيا والمناطق الآمنة وذلك فى إشارة الى المناطق التى تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية التى ترى فيها أنقرة واجهة لحزب العمال الكردستانى.
وقد أكد أن العمليات ستبدأ بمجرد إنتهاء تحضيرات الجيش والإستخبارات والأمن مشيراً الى أنه سيتخذ قراره بهذا الخصوص خلال إجتماع مجلس الأمن القومى التركى المقرر يوم الخميس.
فى الشمال السورى، إذن كما فى بعض جوانب سياسة دول الشمال الأوروبى التى تطرق الآن أبواب الناتو، تطرح تركيا ملف الجماعات الكردية المسلحة وعلى رأسها حزب العمال الكردستانى -الذى تصنفه أنقرة منظمة إرهابية كمصدر تهديد لأمنها القومى مطالبة حلفاءها بإتخاذ موقف داعم وواضح. فتركيا التى كانت قد طرحت، فى السنوات الأولى من عمر الحرب السورية فكرة إقامة منطقة عازلة شمالى سوريا بهدف معلن هو حماية المدنيين شنت منذ عام 2016 ثلاث عمليات عسكرية فى الشمال السورى كان هدفها القضاء على المسلحين الأكراد وإبعاد سيطرتهم عن المناطق القريبة من حدودها هى: عملية درع الفرات (بين مدينيتي أعزاز وجرابلس) عام 2016 وعملية غصن الزيتون (عفرين) عام 2018 وعملية نبع السلام (بين مدينتى تل أبيض ورأس العين) عام 2019.
وتخضع المناطق التى كانت مسرحاً للعمليات الثلاث الآن الى سيطرة فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة وهى تجاور مناطق ما زالت خاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، ذات الأغلبية الكردية.
وبينما يتوجه وفدا التفاوض الفنلندى والسويدى الى أنقرة لإقناع المسئولين الأتراك بالعدول عن موقفهم الرافض لإنضمام البلدين الى حلف الناتو، يكرر أردوغان إتهامه لهما بإستضافة قيادات وعناصر تعتبرها أنقرة إرهابية من حزب العمال الكردستانى المعارض والذى يقود تمرداً مسلحاً ضد الدولة التركية منذ عام 1984 ويتخذ من جبال قنديل فى شمال العراق منطلقا لهجماته على تركيا.
وتقول تركيا إن المسلحين الأكراد فى سوريا والمنضوين تحت لواء قوات سورية الديمقراطية ووحدات الحماية الكردية ما هم الا الذراع السورى لحزب العمال الكردستانى وتأخذ على واشنطن ودول الإتحاد الأوروبى، إستمرار دعمهم بالمال والسلاح.
ويقول أردوغان إن حلفاء تركيا فى واشنطن والغرب يعلمون أن السلاح الذى يقدمونه للمسلحين الأكراد فى شمال سورية بحجة مكافحة تنظيم الدولة الاسلامية سيوجه فى النهاية الى صدور أبنائنا.
وكانت أنقرة قد تقدمت منذ عام 2016 بطلبات للسويد لتسليم 33 شخصية تقول تركيا أنهم نشطاء فى حزب العمال الكردستانى وهو ما رفضته ستوكهولم مرات عدة بدعوى عدم وجود أدلة أو لأن بعض الشخصيات المطلوبة تحمل الجنسية السويدية وشكل هذا الأمر واحداً من ملفات الخلاف التى تستند اليها تركيا فى رفضها لطلب السويد للإنضمام الى الحلف.
ويضم الحلف الذى تأسس عام 1949 ثلاثين دولة ويشترط نظامه الداخلى قبول الدول الأعضاء فيه بالإجماع أى طلب أو قرار ليتم تمريره ما يعنى أن (لا) واحدة من أى من أعضائه، ستكون كافية لإسقاط أى قرار. ويشير الكاتب التركى سعيد الحاج، الى أن الرفض التركى لضم السويد وفنلندا لحلف الناتو ليس نهائياً بل هو مشروط مما يعنى أن هناك عملية حوار وتفاوض ستجرى بين الطرفين بل وبين تركيا من جهة والناتو وواشنطن من جهة أخرى ويضيف: من المتوقع والمفترض أن تحصل تركيا على ثمن مقبول قبل رفعها الفيتو ضد إنضمام الدولتين الذى ينظر اليه الجميع على أنه خطوة مهمة وفارقة وعامل الوقت فيها بالغ الحساسية ويذكر الحاج، بقول الرئيس التركى إن توسع الناتو مهم بذات القدر الذى تقابَل فيه حساسياتنا بإحترام وهو ما يجعل، برأيه، من زيارة الوفد الدبلوماسى من البلدين لأنقرة مؤشراً أولياً على مدى سهولة أو صعوبة عملية التفاوض والحوار بين الجانبين.
يمثل قرار السويد وفنلندا الإنضمام إلى الناتو تحولاً فى موقفهما التاريخى تجاه التحالف العسكرى.
ويجهد الإعلام الرسمى التركى فى الأيام الاخيرة، بتحديد أجندة المطالب التركية التى تريد أنقرة تلبيتها، مقابل موافقتها على توسعة الحلف بدءاً بتجميد وتجريم أنشطة حزب العمال الكردستانى فى كل من السويد وفنلندا مروراً بالتعامل مع ممثلى المسلحين الأكراد فى سوريا بأسلوب مماثل وإنتهاء بالتعاون فى ملف تسليم المطلوبين من جماعة رجل الدين التركى المعارض فتح الله غولين والذى تتهمه أنقرة بالوقوف خلف محاولة الإنقلاب الفاشلة التى شهدتها البلاد عام 2016. ويقول الكاتب والمحلل السياسى بكير أتجان إن رفض أردوغان لإستقبال المبعوثين السويديين والفنلنديين فى تركيا نابع من أن الثمن الذى تريده أنقرة، ليس بمقدور هلسنكى أو ستوكهولم أن تدفعانه، لأنه وببساطة بحاجة الى موافقة أمريكية.
ويضيف إتجان أن تركيا تريد من حلفائها فى الناتو ومن واشنطن أن يقوموا برفع كل العقوبات التى تم فرضها عليها، بما فى ذلك تقييد صفقات بيع الأسلحة الاوروبية الى تركيا وهو الأمر الذى جاء فى إطار ما يعرف بقانون (كاتسا) الذى يعاقب الدول الداعمة والمتعاونة مع أعداء الولايات المتحدة الامريكية وفرض على تركيا بعد قيامها بشراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية إس 400. فرضت السويد وفنلندا حظراً على توريد الأسلحة الى تركيا فى 2019 بعد هجومها العسكرى الذى إستهدف وحدات حماية الشعب فى شمال سوريا. وبدا أن النهج الذى إتبعه الرئيس التركى خلال الأزمة الروسية – الأوكرانية حسن كثيراً من موقفه التفاوضى، فهو وسيط يسعى للخروج من الأزمة بحل سياسى، ويرفض فى الوقت ذاته الإذعان لمطالب حلفائه بفرض عقوبات على روسيا رغم أنه عضو فى حلف شمالى الأطلسى. لكن البعض يرى فى توقيت إعلان الرئيس التركى نيته شن هجوم جديد على المسلحين الأكراد فى شمال سورية إحراجاً لكل أطراف الأزمة فالعمليات العسكرية التركية الثلاث التى شنتها أنقرة فى الشمال السورى فى الأعوام 2016 و2018 و2019 كانت تتم بضوء أخضر إما من واشنطن أو من موسكو، لكنها هذه المرة ستتم رغم أنف الجانبين حسب ما يقول الصحفى والكاتب السياسى التركى علي أوزتورك. فموسكو التى تخوض حرباً فى أوكرانيا منذ شباط/فبراير الماضى تدرك أن إستعداء صديقها التركى هو آخر ما تريده فى هذه الأزمة، فهو المتحكم فى مضائق البحر الأسود بحسب إتفاقية مونترو الموقعة عام 1936 وهو الذى يسمح للغاز الروسى بالمرور الى جنوب شرق أوروبا عبر أنابيبه العابرة للبحر الأسود، وهو الصوت الوحيد المعتدل داخل حلف الناتو. بدورها قد تفضل واشنطن أن لا تشكل عقبة فى وجه العملية العسكرية التركية ضد المسلحين الأكراد إذا كان السماح بإنطلاق العملية هو الثمن الحقيقى الذى سيدفع أرودغان للقبول بتوسعة الحلف وفتح جبهة مع روسيا بعرض 1300كم عبر الحدود الفنلندية، تضمن حدود الحلف الشمالية الشرقية وتبعد خطر روسيا عن أوروبا.
ويرى مراقبون، أن العملية التى يريد أردوغان شنها فى الشمال السورى، تنبع من رغبة تركيا فى توفير منطقة آمنة بعمق ثلاثين كيلو متراً تمتد على طول خط الحدود الفاصلة بين سوريا وتركيا والتى تزيد عن 900 كم. ومن شأن هذه المنطقة فى حال تمت السيطرة عليها أن تكون كافية لإقامة منطقة عازلة تحفظ لتركيا أمنها بعيدا عن مدى أى قذائف صاورخية يمكن أن تسقط داخل الاراضى التركية وهى كفيلة أيضاً بإقامة منطقة قادرة على إستيعاب مليونى لاجئ سورى، يريد أردوغان ان يعيدهم طوعاً كما يقول الى بلادهم لتخفيف العبء السياسى والإقتصادى الذى يواجهه قبل موعد الإستحقاق الإنتخابى المقلق بالنسبة له بعد نحو عام. ويبدو أن أردوغان يرى أن الظروف الحالية تشكل توقيتاً مناسباً لتوجيه ضربة قاصمة للمسلحين الأكراد، سواء بقطع صلاتهم مع واشنطن والغرب ونزع أسلحتهم، وإنهاء أى حلم يراودهم لتأسيس دولة على حدود بلاده الجنوبية وهو حلم لطالما أزعج أنقرة وأثار مخاوفها من أن تشجع هذه الخطوة، فى حال تمت، الأكراد فى تركيا لأن يحذو حذو أبناء جلدتهم فى الجانب السورى من الحدود. التوقيت إذن مناسب لكل ذلك برأى كثيرين، فالعالم ينشغل بالحرب الروسية – الأوكرانية ويخشى من إتساع رقعتها وتداعياتها على المستويين السياسى والإقتصادى، وواشنطن بحاجة لموافقة تركية لتوسيع حلف الناتو وهى لا تستطيع أن تقدم لأنقرة أكثر من السكوت وغض البصر عن عمليتها العسكرية المتوقعة، بدلاً من أن تدفع ثمناً أكبر قد لا تقوى لا هى ولا حكومات أوروبا على دفعه فى هذه المرحلة الدقيقة التى يمر بها الجميع.