الحلقة السادسة والاخيرة من السلسلة الجغرافية مصر ما لم تعرفها من قبل بقلم… سيد السيسى
المناخ يمثِّل مرور المنخفضات الجوية الشتوية والربيعية بمصر أكبر ظاهرة مناخية تؤثر في مناخ البلاد، ولولا هذه المنخفضات لما حدثت أمطار شتوية ولا هبَّت رياح الخماسين. وتكثر هذه المنخفضات الجوية في أشهر الشتاء والربيع، وهي نادرة في أشهر الصيف وأوائل الخريف، وعند مرورها تختفي رياح الشمال وتصبح رياحاً غربية أوجنوبية أو شرقية أو بين هذه الاتجاهات. ويتضح من دراسة اتجاهات الرياح أن أعاصير البحر المتوسط لا تنفذ إلا بدرجة محدودة إلى المنيا حتى في أشهر الشتاء، وأن هذا الإقليم في تلك الأشهر إما أن تهب عليه الرياح الشمالية؛ لأن منطقة الضغط المرتفع واقعة في شماله، وإما أن تسود فيه حالة سكون؛ لأنه هو نفسه مركز لمنطقة ضغط مرتفع، فإقليم المنيا أو إلى شمال المنيا قليلاً يُعَد الحد الفاصل بين الإقليم المتأثر بأعاصير البحر المتوسط وبين الأقاليم الجنوبية التي لاتتأثر بهذه الأعاصير إلا نادراً.
ومما سبق يتضح أن وادي النيل في مصر يمكن أن يقسم مناخياً إلى إقليمين كبيرين هما:
الإقليم الواقع جنوب المنيا، وهو لايتأثر بالأعاصير الشتوية. الإقليم الواقع شمال المنيا، وهو يتأثر بتلك الأعاصير تأثراً مطرداً. مناخ هذا الإقليم مناخ صحراوي قاري، لاينزل فيه من المطر إلا القليل النادر، الذي يحدث عاماً، ثم ينقطع سنين عديدة، ومثل هذا المطر إذا نزل كان نتيجة زوبعة إعصارية قد خرجت عن طريقها المألوف، فأنزلت ما بها من مطر غزير في ساعة أو أقل من ساعة، ثم ينقطع فجأة ويصحو الجو وتنقشع السحب، ولا يبقى من ذكر ذلك الوابل سوى سيول تجري في الأودية التي تخترق صحراء مصر على جانبي وادي النيل.
الحرارة في هذا الإقليم متشابهة في نظامها، وشهر كانون الثاني/يناير أقلها حرارة، وشهر تموز/يوليو أشدها حرارة، ومن الطبيعي أن تكون الحرارة شديدة في الجنوب وتقل تدريجياً نحو الشمال، وفي الشتاء تكون الحرارة معتدلة في النهار (النهاية الكبرى في أسوان 23.7 ْم)، ويصحبها برودة محسوسة في أثناء الليل (النهاية الصغرى في أسوان 9.6 ْم).
وفي الصيف ترتفع الحرارة ارتفاعاً كبيراً في أثناء النهار(42 ْم في أسوان)، ثم تنخفض الحرارة في الليل (25.6 ْم في أسوان)، بحيث يصل الفرق بين حرارة الليل وحرارة النهار نحو 16 ْم.
إذا جاز عد المنطقة الجنوبية إقليماً واحداً من الوجهة المناخية فإنه لا يجوز عد الجزء الممتد بين المنيا والبحر المتوسط إقليماً واحداً، ويحسن التمييز بين أجزائه المختلفة، وتقسيمها إلى أقاليم ثانوية، والعامل الأساسي الذي يمكن أن يُتخذ أساساً لهذا التقسيم هو المطر:
– الإقليم الأول: الصحراوي، وهو شبيه بمصر العليا في ندرة أمطاره، فإن ما يسقط عليه من المطر لا يزيد على 25مم، وهذا الإقليم يقع جنوب خط يمتد من جنوبي السويس إلى بحيرة قارون.
– الإقليم الثاني: القليل المطر، ويراوح ما يهطل فيه من المطر بين 25-100مم. وفي هذا الإقليم تقع القاهرة ومعظم أراضي الدلتا، والحد الشمالي لهذا الإقليم هو خط المطر 100مم، الممتد من جنوبي دمنهور إلى غربي بورسعيد، بانحراف إلى الشمال الشرقي.
وهذه المنطقة انتقالية بين الإقليم الصحراوي جنوباً وإقليم البحر المتوسط شمالاً، والمطر في شطرها الجنوبي أقل منه في شطرها الشمالي ( متوسط الهطل المطري في القاهرة نحو 34مم وفي طنطا نحو 42مم وفي كفر الزيات نحو 56مم). على أن ما يميز هذه المنطقة من سابقتها ليس مقدار الهطل فقط، بل انتظام سقوطه، فالشذوذ هنا أن تمر سنة من دون أن تسقط أمطار، أما في المنقطة الصحراوية فإن سقوط المطر بكمية محسوسة هو الظاهرة النادرة.
الإقليم الثالث: هو إقليم البحر المتوسط، وهذا الإقليم من أرض مصر هو الذي يُمكِّن مع شيء من التسامح من إدخاله في إقليم البحر المتوسط، فليست سواحل مصر كثيرة الأمطار، كثرة تعادل سواحل سورية ولبنان واليونان وإيطاليا وفرنسا، ولكنها إذا اختلفت في المقدار فإنها متفقة في النوع. ويراوح ما يهطل من المطر في هذا الإقليم بين 100-250مم، وهو أقل في الشرق منه في الغرب، فهو في الإسكندرية نحو 204 مم وفي بورسعيد نحو 83مم، وهذا الفرق يعود إلى تقوس سواحل الدلتا، فالجزء المحصور بين فرعي رشيد ودمياط بارز داخل في البحر، وأكثر هبوب الرياح التي تحمل المطر إلى سواحل مصر يكون إما من الغرب، وإما من الشمال الغربي، وفي كلتا الحالتين فإن سواحل الإسكندرية ومريوط ورشيد تعترض هبوب هذه الرياح اعتراضاً، ولاشيء أدعى إلى هطل الأمطار من اعتراض السواحل أو الجبال هبوب الرياح الرطبة.
ومن حيث نظام هطل الأمطار على سواحل البحر المتوسط، يُلاحظ أن أشهر الصيف جافة تماماً، ويبدأ سقوط المطر قليلاً جداً في نهاية أيلول/سبتمر، ويبلغ النهاية العظمى في كانون الأول/ديسمبر(في الإسكندرية)، ثم يقل بعد ذلك حتى يكاد ينعدم تماماً في الربيع.
إلى جانب الأمطار هنالك اختلافات واضحة في درجات الحرارة بين سواحل البحر المتوسط وبين إقليم القاهرة مثلاً: فالإسكندرية أدفأ في فصل الشتاء لا من القاهرة فقط، بل هي أدفأ في متوسطها من أكثر مدن الصعيد، وهي في الوقت نفسه أقل حرارة في الصيف من القاهرة، لكن معدلات الرطوبة النسبية أعلى في السواحل منها في المناطق الداخلية.
يبلغ الفرق بين النهاية الكبرى والنهاية الصغرى في الإسكندرية 7 أو 8 درجات مئوية، أي إن الليل أدفأ، كما أن حرارة النهار ألطف منها في القاهرة، فأثر المناخ الصحراوي هنا قليل جداً، وهذه الظاهرة وسابقتها ترجعان إلى تأثير البحر والرياح التي تهب من البحر.
تبتدئ المدة التي تهب فيها رياح الخماسين من شهر شباط/فبراير وتنتهي في منتصف حزيران/يونيو، ورياح الخماسين عبارة عن رياح تهب من الجهات الجنوبية (الجنوبية الشرقية والغربية) على مصر السفلى، وسبب هبوبها مرور منخفضات جوية آتية من الغرب. أما طريق الأعاصير في الشتاء فيكون إلى الشمال من سواحل مصر، وجنوبها في أشهر الربيع. فإذا مرّ الانخفاض على سواحل مصر هبت من الصحارى الجنوبية رياح ساخنة حارة، وكثيراً ما تحمل معها مقداراً كبيراً من الرمال، وهذه هي التي يعرفها الجميع بأنها هي رياح الخماسين حقاً.